حالة الانسداد

 

حالة الانسداد

حالة الانسداد



الانسداد، تلك هي المرحلة العقلية ما قبل الأخيرة، تكون أيامك الأولى متعاليا كالله، لا ترى في كل مسلك للحياة سوى استيهام كاذب للهروب من وقاحة العيش، كما ينظر الله إلى مخلوقاته باحتقار أحياناً وبرأفة أحايين أخرى، تنظر إلى أيامك بشكل مرتبك، تارة محموماً بالنبيذ والفرحة، يشع منك بريق حب الحياة، تارة كالكلب المسعور تلعن الطرقات وكل من رمتك الأيام في طريقه. 

ثم تستنزف كل طاقتك في اللعن والشعور واللاشعور، في الغضب والحب والأمل واليأس الناقم، وها أنت ذا قد وصلت حالة انسداد جيدة، مهما تهربت، تحاول أن لاتبدو تعيساً كي لا يقول الآخرون: انظروا إنه شخص بئيس يعقد الحياة...تحاول أن تبدو رزينا وشهوة الحياة تتدفق في أنابيب خصيتيك ورأسك، كي لا يقول الآخرون: يا له من "كائن خفيف".  لكنك في لحظة ما -وقد لا تكون كذلك لأنه ليس الجميع متشابه-  تقفز على طيز الآخرين مرة واحدة، الحاجز الذي ينتصب في وسط شبابك كالسراب وهميا، مثل اللجام الصغير التافه الذي كان يوهم الحصان بأنه خاضع لسلطة مخيفة. وقد تحررت من الآخرين، ومن أوهام الناس المشتركة، تعرف أن لا فائدة في الحب ولا الأطفال وأنه لا عدالة في الكون، ولا رب، ولا وطن، ولا جنس ثان أو عاشر يفيدك في تجربتك الذاتية، وأنك بذاتك لست ذا بال، وأن العالم يتعداك، لكن رغم وسعه فهو تافه وسيبقى كذلك في أبعد نقطة من السديم القاتم، ما الذي سيختبئ في العوالم البعيدة؟ موسيقاك سمعتها ألف مرة، الكتب تتداول  عشرة أفكار كبرى بمليار طريقة مختلفة، النساء نفس المسار، نفس الأسطوانة. ما كنت مشدوها به يصبح مألوفاً، واقفا عاريا من كل رغبة كانت تعمي بصيرتك تواجهك أخيرا، تواجه نواة عظامك الداخلية، قشرتك الساخرة التي طالما اختبأت في مرارتها المبطنة متأملا أن يكشف العالم شيئاً ما في لحظة لاحقة من العمر، تختفي هي الأخرى، العمر فقط وهم هو الآخر، أنت لحظة واحدة تخترقها أشياء متعددة في رمشة عين. ما أنت بحزين ولا سعيد ولا ساخر ولا مع الآخرين ولا وحدك، لا أنت مؤمن بشيء ولا كافر بشيء، لا طاقة لك للكفر والكراهية ولا للتعلق أيضاً، عالقاً في مصعد الحياة نحو نهايتك، هل هو نازل أم صاعد؟ 

لم تصنع الضجيج الذي يخفي عنك تأمّلاتك مثلما فعل كل من عرفت، أحياناً تتساءل كيف كانت الحياة لتكون لو أنك اتبعت مسارات مألوفة هادئة فيأتيك الرد الصاعق من شخص تعرفه، شخص غارق في خراء الأطفال والأقساط والمحاكم.

  لا يبقى أمامك سوى بداية جديدة بعد الانسداد الحياتي الأول، بداية التعايش مع اللانتماء، ذلك الشعور والفكر الذي طالما ادعيته في شبابك وأنت في غمرة التناقضات، غاضبا أو عاشقا أو غارقا في أحد الأوهام الكبرى، ربا أو سياسة أو امرأة أو انتماء غبيا، حتى ذلك الانتماء الاستمنائي لـ"الذات"، الآن لم تصله أنت بل أتاك "يختال ضاحكا"  ووقف أمامك حقيقة عارية، ليس لك سوى أطراف جسدك،  تحسسها كأنها خشب بارد  لا ينتمي إليك، لا تنتمي إليه. 

كنت في وقت لاحق تظن اللانتماء شيئا جميلا، شاعريا، ثوريا، لكن يباغثك السؤال الآن على أعتاب الرعشة الأخيرة للوعي: 
ضد من؟ 
كل الأنساق نتيجة حتمية لا يختارها أحد،  لا "أعداء لك" ولا "أصدقاء"، لا شيء في العالم يقف ضد شيء، لا أحد ضد أحد، حتى أعتى المدافعين عن العلب الكبيرة المسماة عقائدا وأدلوجات، ليسوا سوى أشخاص مثلك تماما هاربين من خواء يشعرون به في لحظات مستقطعة من غرقهم الجميل في الأوهام اليومية. الكل هارب من شيء ما، تسكنه غرائز لا يتحكم فيها، يجد تبريرات ما مجانية في طريقه، يرمي بنفسه في أحضانها، لا حق لك في محاكمة كل هؤلاء وكأنك الله، لست سوى حبة رمل تافهة. 

الآن تتعايش، حرا من وهم حريتك هه مع كل شيء، كان القدماء يسمونها زورا "سعادة الحكيم"، كل الذين مروا قبلك بهذه التجربة صار عندهم كل شيء سواء، لكنهم اختاروا أن يضعوا قناعاً واحداً: المعرفة. لكن  قليلون من قالوا لك إن المعرفة لا تأتي إلا بعد أن يغادرك آخر قبس من الانتماء لشيء ما، من حب شيء ما، من إرادة شيء ما كيف ما كان. حقيقة قبيحة تهرب منها بعضهم بانتماء مزيف للإنسانية، واجهها البعض باليأس الغبي واللعن، حاول آخرون التنفيس عنها بأشياء جانبية كالنسيان و"صنع المعنى"..
 لكن ماذا ستفعل أنت ما دمت لم تعد ترى "الآخرين" ما دمت خارج كل العلب المغلقة كما تدعي؟



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-