مدام روزا
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
في رواية LA VIE DEVANT SOI، يحكي طفل عربي صغير اسمه محمد (مومو) عن حياته في بيت مدام روزا. وهي امرأة تتكفل في بيتها بمجموعة من الأطفال، مقابل مبالغ مالية شهرية تتسلمها عن طريق البريد من أمهاتهم اللواتي يمارسن الدعارة.
الرواية- وهي من الروائع الأدبية- من تأليف Romain GARY، وقد نشرها في البداية باسم مستعار هو Émile AJAR.
ونظرا لطبيعة اللغة التي يتحدث بها الطفل/ الراوي فهناك عبارات قد تبدو مستغربة إلى حد ما.
ترجمة : عبدالقادر وساط
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
أول ما يمكنني قوله هو أننا كنا نَسكن في الطابق السادس على الأقدام.
وبالنسبة لمدام روزا، التي تَملك جسما ثقيلاً، وساقين اثنتين فحسب، فقد كان ذلك مَصدرا حقيقيا للحياة اليومية، بكل هواجسها وأحزانها.
كانت مدام روزا تُذكرنا بكل هذا، حين لا تشتكي من أشياء أخرى، ذلك أنها كانت يهودية أيضا. ثم إن صحتها لم تكن جيدة، وأستطيع أن أؤكد لكم منذ الآن أن مدام روزا امرأةٌ تستحق مصْعَداً.
لعَلّي كنت في الثالثة من العمر، حين رأيتُ مدام روزا أول مرة. أما قبل هذه المرحلة من الحياة، فإننا نكون بلا ذاكرة ونجهل حقيقة الأشياء من حولنا. ولقد توقفتُ عن الجهل عند بلوغ الثالثة أو الرابعة من العمر، بيد أني أحن إليه كثيرا في بعض الأحيان!
كان هناك الكثير من اليهود والعرب والزنوج في بيلڤيل، لكن مدام روزا كانت تصعد الطوابق الستة وحدها، لأنها لا تجد المساعدة من أحد. كانت تقول إنها ستموت يوما ما في السلالم، وحين يسمع الأطفالُ ذلك يشرعون جميعا في البكاء، لأن البكاء هو ما ينبغي أن نقوم به حين يموت شخصٌ ما.
كنا ستة أو سبعة أطفال في ذلك المكان، وأحيانا كنا نتجاوز ذلك العدد.
في البداية، لم أكن أعرف أن مدام روزا تعتني بي فقط من أجل الحوالة التي تستلمها في نهاية الشهر. وحين عرفتُ ذلك، كانت ضربة قاسية بالنسبة إلي، إذ ثبتَ لي يومئذ أني مُؤَدّىً عني. كنت أحسب أنها تحبني دون مقابل وأن لكل واحد منا أهمية خاصة لدى الآخر. لذلك بكيت الليل كله، يوم عرفت الحقيقة، وكان ذلك أول أحزاني العميقة.
لما أدركَت مدام روزا ما أشعر به من حزن، شرحت لي أن كلمة "أسْرة" لا تعني شيئا، في حقيقة الأمر، وأن هناك أشخاصا كثيرين يمضون لقضاء العطلة في هذا المكان أو ذاك ويتخلون عن كلابهم، إذ يتركونها مربوطة إلى الأشجار، هكذا يموت ثلاثة آلاف كلب كل سنة، ثم إنها أجلستني على ركبتيها وأقسمَت لي أني أغلى إنسان عندها في هذه الدنيا، غير أني فكرت مباشرة في الحوالة الشهرية وانصرفتُ عنها باكيا.
نزلتُ إلى مقهى السيد إدريس في الطابق السفلي وجلستُ قبالة السيد هاميل الذي طاف فرنسا كلها، بائعا متجولا للبُسُط، ورأى وجرب كل شيء. للسيد هاميل عينان جميلتان، تخلقان إحساسا مريحا لدى المحيطين به. لقد كان شيخا مُسنّاً يوم عرفته، ومنذ ذلك اليوم وهو يشيخ ويشيخ ولا يفعل شيئا آخرَ غير ذلك.
-مسيو هاميل، لماذا أنتَ دائما بابتسامتك؟
-لأنني أشكر الله كل يوم على أن منحني ذاكرة جيدة، يا صغيري مومو.
أنا اسمي محمد، لكن الجميع ينادونني مومو، باعتبار الصِّغَر.
-قبل ستين سنة، في فترة شبابي، التقيتُ امرأة أحبتني وأحببتها. استمر ذلك ثمانية شهور، وبعدها انتقلَتْ هي إلى مسكن آخر. أنا أتذكر جيدا كل ذلك، رغم مرور ستين سنة. كنت أقول لها: لن أنساك، ومرت السنوات ولم أنسها. كنت أحيانا أخاف لأنه لا يزال أمامي كثير من الحياة، أخاف ألا أفي بوعد قطعته على نفسي، وأنا رجل محدود القدرة، والله هو الذي يمسك ممحاةَ النسيان. أما الآن فأنا مطمئن، لأنني متأكد أنني لن أنسى جميلة. لم يبق أمامي سوى القليل من الوقت، في هذه الدنيا، وسأموت قبل أن أنسى.
فكرت عندئذ في مدام روزا ، ترددت قليلا ثم سألت:
-مسيو هاميل، هل يمكننا أن نعيش دون حب؟
لم يجبني. شرب قليلا من الشاي بالنعناع المفيد للصحة.
كان يرتدي جلابية رمادية. منذ فترة وهو يرتديها، حتى لا يفاجئه أحد في معطف قصير، إن جاء يدعوه لأمرٍ ما.
نظر إلي وبقي صامتا. لعله أدرك أني لا أزال ممنوعاً مع القاصرين، وأن هناك أشياء لا ينبغي أن أطلع عليها. في ذلك الوقت كنت قد بلغت السابعة أو الثامنة من العمر، لا يمكنني أن أخبركم بسني على وجه التحديد، لأنني دون تاريخ، وهو ما سأبينه لكم حين نتعارف أكثر، إنْ كان تَعارُفنا يستحق منكم هذا العناء.
-مسيو هاميل، لماذا لا تجيبني؟
-إنك ما زلت صغيرا، وحين يكون المرء صغيرا فهناك أمور من الأفضل ألا يعرفها.
-مسيو هاميل، هل يستطيع المرء أن يعيش دون حب؟
-نعم، أجابني، ثم خفض رأسه كما لو كان يشعر بالخجل.
وعندئذ شرعت في البكاء.
على امتداد فترة طويلة، لم أكن أعرف أني عربي، إذ لم يكن يشتمني أحد. لم أكتشف أني عربي إلا في المدرسة، غير أني لم أكن أتعارك، فالمرء يشعر دائما بالألم حين يسدد ضربة لشخص آخر.