من ماريا كساريس إلى ألبير كامو : كم أشتهي أن أملك طاقة تحمل هذا السحر حتى عودتك.


من ماريا كساريس إلى ألبير كامو : كم أشتهي أن أملك طاقة تحمل هذا السحر حتى عودتك.


 من ماريا كساريس إلى ألبير كامو : كم أشتهي أن أملك طاقة تحمل هذا السحر حتى عودتك. 

 


 من ماريا كساريس إلى ألبير كامو 

14 جويلييه 1949

الرسالة 19 (69)


كم أشتهي أن أملك طاقة تحمل هذا السحر حتى عودتك. 


حبيبي.

اليوم احتفالات عيد النصر. الجو ما يزال ثقيلا، السماء حليبية اللون، والحرارة مستمرة. لكننا نشعر بأنفسنا أخف من الأيام الأخيرة. في كل مكان يُسمع النشيد الوطني "المارسييز" الفرح، التنورات الفاتحة اللون والفضفاضة، أقمصة الرجال، "لافارنينتي"، العطل، السهرات، الفوانيس الليلية، الأعلام، ألعاب الرهان، إلخ...  صحيح  أنه في بيتنا شيء من الكآبة، بسبب ذكرى 14 جويلييه أخرى، لكن الفرح حاضر، والأمل والحب العظيم والامتلاء، الحياة. 


الأيام تمضي بتثاقل ورتابة في ظاهرها. برنامجي كما هو، لم تتغير. ربما سأخرج ليلا، أصبحت درجة الحرارة ثقيلة ومن الصعب التجول نهارا. منذ سفرك لم أشرب إلا بعض البيرات، وعصير الليمون، وأربع فودكات في عشاء غراك  والماء طبعا، ولا قطرة نبيذ، باستثناء رشفات مع الجبنة كلما أكلت. أي عند الضرورة الصحية. 


أنتظر رسالتك القادمة في الفرح والحزن. أعيش كليا معك. أشعر بنفسي كأني حيوان غير مروض. من ناحية جسدية، أقضي اليوم كله عارية، الشمس تحت الجلد، الكسل، والرغبات الدفينة. البقاء طويلا ممددة طوليا، منحني السكينة والأمان في الحركة الذي لا شبيه له إلا عند الحيوانات البرية. أتحرك بشكل جيد دون عنف في حركتي ولا تعثّر. يكفيني الحد الأدنى من التحركات الضرورية. أنا واعية بكل هذه اللحظات التي أشعر فيها بنفسي شديدة البهاء. أفعل ذلك لأغني خيالك بكل بساطة، وتستطيع أن تراني قليلا كلما اشتقت إليّ.


داخليا، أتابع بوفاء، وبحساسية نادرة، التحولات الجوية. الرعود التي كانت تحوم على باريس في الأيام الأخيرة، أثرت على توازني كثيرا. ومررت بحالات عديدة من الضّيق... الميتافيزيقي. البارح فقط خفّ الهواء الثقيل قليلا، لكنه اليوم أصبح موبوءا. وعلى الرغم من ذلك، فالكلمة الأخيرة دوما للحياة، التي أعيشها بإفراط كبير. جولة البارحة الليلية عبر باريس، أثناء العودة، كانت مدهشة. النسائم، نهر السين، القمر الممتلئ لدرجة الانفجار، الجمال في كل مكان، من حولي، في داخلي، مثقلة بك، خفيفة من فرط السعادة التي تأتيني منك، مشرقة ومرتبكة بهذه الرغبات الفظيعة التي يُسكنها فيّ وجودك. ما أجملها من جولة عبر هذه المدينة التي أحبها جدا وأنت تسكنني. النسيم الليلي الناعم الذي يمرّ تحت فستاني، ويلمس جلدي، يوقظ شهوتي في أن أكون بين ذراعيك. العطش إلى شفتيك كما الماء. عطش العذوبة حيث يختلط ريق شفتينا. يا للحظات الثرية بالجمال الذي يحبس الأنفاس. ساحرة ورهيبة في الوقت نفسه. 

كم أشتهي أن أملك طاقة تحمل هذا السحر حتى عودتك. 


أصبحت غنائية في كلامي، على ما يبدو. لا أريد ذلك، كل ما أردت أن أخبرك به، قلته بكل بساطة، قلته عن طريق الصور الجميلة التي تركتَها فيّ. فأظهرت انجذابي بكل طاقتي تجاه ما كان وما أنتظره. شيء ولا أجمل. منحتَني كل الجمال الممكن. عبّرتُ عن ذلك ببساطة، وكان يجب أن تعرف شعوري. أتساءل إذا لم يكن مصدر ذلك كله غيابك؟ لكني بعد تفكير طويل، لاحظت أنك كنتَ مصدر كل شهواتي ورغباتي، ويصعب تخيل غيرك أمامي، قريبا كان أو غريبا، يحتضنني ويأخذني بكلي، كنتُ سأنغلق بشكل تلقائي على نفسي. نعم أريدك أنت. ولا أحد غيرك.

لم أعد أتحمل العيش في غيابك، ولا قادرة أن أعتبرك غريبا عني. فتحمل غياب ثقيل أصبح صعبا، حتى ولو استعار هذا الغياب وجها جميلا، وسخيا، ومغريا. أفضلك بجانبي بكل عيوبي، ولو بدوت قبيحة، ناقصة، مهانة ومزعجة، على أن أعرّض حبنا للضياع والذوبان. سأفضل قتله معك، بأيدينا، على أن نتخلى عنه لأنانية صغيرة أخسر بعدها كل معنى لحياتي. كم تبدو لي الآن تلك الأفكار التي انتابتني مرات عديدة، غبية، فارغة، ادعائية، وبلا جدوى. 


بين يدي الآن مسرحية L'envers et l'endroit التي لم أقرأها بعد. لماذا تقول إنها سيئة؟ فيها شيء من الروح الشبابية، بعض الفوضى، وقليل من الغموض أحيانا. ولكنها مفيدة للقارئ غير المختص. تخترقها صفحات مذهلة، اندفاع قوي غير مسيطر عليه، نحو الحياة. اكتشفت من خلالها، أكثر من غيرها، أنك مليء بالحياة. لو وجدتَ وقتا كافيا لإعادة كتابتها، ستكون روايتك  بنفس ضخامة الحرب والسلام. طبعا، لستُ مؤهلة للحكم. بدا لي فقط وأنا أسمعك تقرأها على مسمعي، كأنك كنت تحكي معي عن كل هذه التفاصيل. سؤال: هل أحسستَ يوما بالفقر حقيقة؟ كأنك ولدتَ مغطى بكل ما يحميك، وبكل ما هو رفاه زائد؟ ما الفرق بينك وبين غييو؟ 


لنمرّ الآن إلى الأخبار الجديدة. خطة عملي تغيرت نحو الأحسن، وكل برامجي المرتبطة بها تغيرت أيضا. لن أسافر إلى نيس. كل اللقطات الخارجية لفيلمي ستتم في باريس، أو ضواحيها. أخبرت المعلّم  بذلك والذي سخر مني كثيرا، لكنه كان لطيفا جدا معي، وأفادني بخبر أسعدني. لن يفتتح الموسم المسرحي بكاليغولا، ولكن بمسرحية أخرى، لم يحدثني عنها. سألتقي به في الأسبوع القادم لترتيب العقد. ولابد أن أحمل معي سلاحا ناريا لأقنعهم بواجب تقديري واحترام حقوقي. يبدو أننا سنبدأ التدريبات في 5 سبتمبر وسيكون العرض في نهاية شهر أكتوبر. لا أعرف بالضبط من سيشترك معي في المسرحية؟ لا أعرف. للأسف، جيرار فيليب بدأ تصوير فيلمه، ولن يكون متوفرا. 


وها هو التوتر يعاودني من جديد. أي استقبال من الجمهور ينتظرنا؟ وهل سننجح؟ النص مدهش، ولكن هل يكفي حكمي؟ أنا لا أحب الشكل المسرحي الصافي، كوسيلة تعبير. لا أملك الحصافة الكافية لإعطاء رأي قاطع فيما لا أحب. طبعا كل هذا لا معنى له في النهاية. من يستطيع اليوم أن يتوقع أن مسرحية ما ستنجح أم لا؟ من؟ حتى لو أخفقت، فماذا يمكننا أن نفعل في النهاية؟ المهم بالنسبة لنا أن يظل العرض والتوزيع وفيين، ولا يخونان أبدا، مهما كانت الظروف. 

المهم، كل شيء في وقته. 

من جهة ثانية، لقد قررت نهائيا إلغاء سفري الطويل والممل إلى بياريتز.

بالنسبة لبقية البرنامج، لا شيء تغير. أبي في وضع أفضل، يتحسن. ننتظر قراراته وإمكاناته للذهاب للضيعة. أورفي لا تبدأ إلا في حدود 5 أو 15 سبتمبر. أواصل حصص الراديو. أقرأ، أتجول، ألتقي قليلا بالناس خارج معارفي. وضعي بين بين. 

في كل مكان، وفي أية لحظة، وفي أية حالة نفسية، أحبك. أنتظرك. 

أنت لاحقا، لكن رسائلك أريدها الآن. 

حبيبي

عندما تكتب لي، أعطني فكرة عن برنامجك، لأعرف ولو بشكل عام، أين وصلتَ؟ لا تنس أن تشركني في انطباعاتك وتحدثني عن الاستقبال الذي خصصوه لك ولمحاضراتك هناك. حدثني عن تسلياتك. حدثني عنك بلا ملل حتى بالنسبة للأشياء واللحظات الصغيرة، وأنت بعيد عني، في غيابي. تخيل جهلي الكلي لكل ما يحيط بك، وابعث ما يمهلني حتى مجيئك، وتحمُّلِ انتظارك. 


هذا الصباح، جاءتني بيتو بقراءة نقدية ل"سوء التفاهم Le Malentendu"، نشرت في صحيفة العالم الأرجنتيني "El Mundo Argentino" ليوم 8 جوان 1949. مقالة نقدية جميلة أحتفظ لك بها إلى أن تعود، إذا لم تكن قد قرأتها. معها صورة لك، أقل جمالا. 


أحبك. أحبك. أحبك. أكتب لي دائما، كلما شعرت بالرغبة في فعل ذلك. 

أحبك. أقبلك. ولا يهمّ إذا اختنقتُ أثناء ذلك. 

ماري.

استدراك: سأنقل لك المقالة النقدية بالفرنسية، وأبعثها لك رفقة البريد القادم.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-