منهجية تحليل سؤال فلسفي | لم الاعتراض على الرأي باسم الحقيقة؟


منهجية تحليل سؤال فلسفي | لم الاعتراض على الرأي باسم الحقيقة؟


الموضوع : لم الاعتراض على الرأي باسم الحقيقة؟

منهجية تحليل سؤال فلسفي | لم الاعتراض على الرأي باسم الحقيقة؟


تحرير الموضوع:


مقدمة:


من الصعب أن نتصور رغبة الإنسان في امتلاك معرفة لا تتصف بقيمة محددة وهي الحقيقة، فحقل المعرفة حقل لجهد إنساني غايته القصوى بلوغ الحقيقة التامة. وتتداخل في هذا الحقل آليات وأدوات لبناء المعرفة وتحقيق الحقيقة، كما تتجاور مفاهيم أحيانا، وتتنافر أحيانا أخرى. ولعل إحدى سمات التنافر هو ذلك التعارض الذي عرفه تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم بين الحقيقة والرأي. فما الذي يجعل الرأي عائقا في وجه الحقيقة؟ وهل يمكن تأسيس الحقيقة على الرأي؟

تحليل:


يضمر السؤال الإشكالي المفتوح تنافرا فعليا بين الحقيقة والرأي، بحيث يصبح الرأي دوما دالا على ما يتعارض جذريا مع الحقيقة التي تقصي الرأي وتعتبر مجاله بعيدا عن حقل إنتاجها. ومرد هذا التباعد والتنافر بين الحقيقة والرأي أن الحقيقة ليست معطى جاهزا، بل تبنى اعتمادا على أدوات معرفية، إما عقلية منطقية، و إما تجريبية نظرية مجهزة بتقنيات وخطوات منهجية مضبوطة تستبعد كل التمثلات القبلية النسبية والغير مفكر فيها، لتضع بدلها معرفة يقينية تتسم بالضرورة والكونية؛ بحيث يصبح الرأي من هذا المنطلق عائقا من جملة العوائق التي على المعرفة الحقيقية تجاوزه. إن الرأي، كما قال أفلاطون، هو وسط بين الجهل والعلم، ومعنى ذلك أنه أكبر خطر على الحقيقة والعلم من الجهل، إذ الجهل يعني عدم المعرفة، في حين أن الرأي اعتقاد راسخ في امتلاك المعرفة واليقين، لذلك فأكبر عائق تصطدم به الحقيقة المبنية ليس الجهل، وإنما الرأي الذي يتم تداوله بدون تفكير نقدي. إن الرأي وهم يتم قبوله والاستسلام له، بما يتمتع به من ذاتية ونفعية، واعتبارا لما يقدمه من إجابات مباشرة قادرة على التفسير إما بشكل حسي مباشر، أو عبر توظيف الخيال. وسرعان ما يتحول الرأي عبر التداول والتقليد إلى مسبقات توجه الوجدان الفردي والجماعي، وهي مسبقات تصبح أكبر عائقا أمام البحث العقلي والتجريبي العلمي.

يمكن اعتبار التوتر السابق بين الحقيقة والرأي، توترا يشكل قاسما مشتركا بين جل الفلسفات وبعض المواقف الإبستمولوجية؛ فأفلاطون يعتبر الرأي هو تصور العامة أو الجمهور، والذي على الفيلسوف التخلص منه وتجاوزه إذا ما أراد بلوغ الحقيقة المطلقة. أما باشلار فيرى أن الرأي يفكر بشكل سيء، بل لا يفكر، لأنه يعبر عن حاجات ومنافع مباشرة؛ لذلك اعتبره أكبر عائق أمام المعرفة العلمية، ومن ثمة لا بد من هدمه وتجاوزه.

مناقشة:


لكن السؤال الذي يطرح، رغم ماقيل سابقا، هو إلى أي حد يمكن فعلا التخلص من الرأي، وهل الرأي دوما سلبي؟ من الملاحظ أن الذات العارفة لا تلج عالم الحقيقة إلا وقد تقوت في مسار حياتها بالأفكار المسبقة التي اتخذت منها سندا قويا في تأسيس هذه الحقيقة، مما قد يدفعنا إلى القول بأن الرأي، رغم أنه لا يقوم على أسس نقدية ومنهجية، إلا أنه مع ذلك يعكس مجموع الخبرات البشرية التي تحتفظ بقوتها وقدرتها على توجيه وبناء الحقائق في بعديها الفلسفي والعلمي. إن الحديث عن "الحقيقة" الحدسية، في بعض الفلسفات، حديث لا يتباعد بشكل قوي عن المعرفة القائمة على الرأي بما أنها معرفة حدسية، مثل الرأي، غير قابلة للتنظير العقلي والتحقق التجريبي. كما أن بعض التصورات العلمية المنتمية لفترات قديمة احتفظت ببعض ما يعتبر رأيا، مثل الاعتقاد بأن سقوط الأجسام إلى الأسفل راجع إلى ثقلها، وأن الأجسام الخفيفة تكون حركتها إلى الأعلى.

تركيب:


يمكن أن نستنتج إذن أن علاقة الحقيقة مع الرأي علاقة تظل تحمل ذلك التوتر بين ما هو معطى وما يتم بناؤه بعيدا عن التمثلات والمسبقات. إلا أن البحث الفلسفي في مفهوم الحقيقة لا يروم فرض حقائق بذاتها، وإنما هو دعوة إلى ممارسة فعل التفكير  الواعي والحر، بعيدا عن خطابات الزيف والعنف.

تعليقات