منهجيات الفلسفة | منهجيّة تحليل سؤال فلسفي | معرفَة الغير


منهجيّة تحليل سؤال فلسفي


الامتحان الوطني الموحد لنيل شهادة البكالوريا / دورة يونيو 2013 

 كل المسالك العلمية والتقنية والأصيلة / المادة : الفلسفة | الدورة العادية


---------------------------------------------------------

هل يُمكن معرفَة الغير عن طريق المُماثلة بيني وبينَه؟

---------------------------------------------------------

هل يُمكن معرفَة الغير عن طريق المُماثلة بيني وبينَه؟



🎙 موضوع مهم للغاية : هل ترغب في تعلم اللغات مجّاناً؟ حمل أفضل تطبيقات تعلم اللغات 👇

تحرير الموضوع


مقدمة

إن المجال النظري للوضع البشري، هو مجال للحديث عن الشروط الموضوعية والذاتية التي تشرط وجود الكائن البشري / الإنسان في العالم؛ فوجود الغير والوعي والموت هي محدّدات ضرورية يكابدها كل شخص بما يميزه بصفته شخصاً، وبما يوحده مع باقي الأغيار. وإذا كان وجود الغير شرطا قبليا ضروريا للذات، إلا أن وجوده يتضمن جملة من المفارقات والتناقضات : فهو أنا شبيه بالأنا ويختلف عنه، قريب وبعيد، يوجد في العالم كأشياء العالم، إلا أنه في الآن ذاته متميز عنها من جهة أنه شخص وأنا آخر له وعي وهوية وقدرة على التعبير والترميز. وداخل هذه المفارقات يطرح إشكال معرفة الغير، هذا الغير الذي هو معطى أمام الذات أو الأنا بوصفه جسدا ورمزاً. فهل بالإمكان إدراك عالمه الداخلي بوصفه ذاتا تشبه الأنا؟ أليست معرفة الغير تفترض شروطاً ومحددات أخرى تنبني على الاختلاف والتفرد؟ هل معرفة الغير ممكنة أو مستحيلة؟


تحليل

في بداية تحليلنا، لابد من الوقوف عند المفاهيم والألفاظ المتضمنة في هذه الأطروحة المفترضة في السؤال، والتي تقوم على افتراض أن معرفة الغير ممكنة اعتماداً على معرفة الذات لذاتها، ف"هل" التي هي أداة استفهام تفيد التصديق بمدى صدق القول تطالبنا بضرورة التفكير والتأمل في فعل المعرفة بوصفه فعلا إبيستمولوجيا يقوم على علاقة بين ذاتين إنسانيتين هما : الأنا والغير، وداخل هذه العلاقة تتحول كل ذات إلى موضوع بالنسبة للذات الأخرى، وتريد أن تتعرف تجربة وقيم ووعي الغير، فتعتبر أن الغير هو ذلك الشبيه والمماثل للأنا، وعن طريق هذا التشابه في الصفات والخصائص يصبح بالإمكان معرفة الغير باعتباره "أنا" آخر يشبه الأنا.
هذه الأطروحة الفلسفية تبلورت ضمن فلسفات الوعي، وخاصة مع الفلسفة الديكارتية التي اعتبرت أن الأنا المفكرة هي الحقيقة الثابتة (إلى جانب فكرة الله)، وأن الأنا باستطاعته إثبات وجوده المفكر في غياب العالم والآخرين. من هذا المنطلق يصبح الغير وجودا عرضيا لا قيمة له بالنسبة للأنا ولا دور له في وعيها بذاتها. إن الغير هو مجرد موضوع خارجي أصادفه في العالم، وجوده وجود ظني. ومادام يشبهني ويستطيع الكلام والتعبير عن ذاته فإن معرفتي به يمكن أن تتحقق، فقط، انطلاقا من وعيي بذاتي ومشاعري، أي عبر الاستدلال بالمماثلة، على اعتبار أن ذاتي ووعيي بها هي الحقيقة اليقينية في مقابل الوجود الظني والعرضي للغير.
لكن هل أنا أعرف ذاتي معرفة شفافة ويقينية لتصبح هذه الذات نقطة ارتكاز في معرفة الغير؟ أليس وجود الغير هو ما يسمح لي بمعرفة ذاتي؟


مناقشة

لقد ذهب "هوسرل" في كتابه "تأملات ديكارتية" إلى التأكيد على أهمية وجود الغير بالنسبة للأنا، هذا الغير الذي أصبح حقيقة يقينية بدءاً مع فلسفة هيغل. إن الوعي ذاته وعي يتجه نحو العالم والخارج، وفي هذا العالم هناك الغير الذي نبني معه عالما موضوعيا مشتركا عبّر عنه هوسرل داخل مفهوم "البينذاتية" بوصفه مفهوما جوهريا تجاوز الأطروحة الديكارتية القائمة على عرضية وجود الغير ودور المماثلة في معرفة الغير. أما بالنسبة لهوسرل فالأنا والغير وعيان يعيشان في نفس العالم الموضوعي، بينهما عالم مشترك من المعاني والقيم، الشيء الذي يبرر قيام منهج تفهمي، يقوم على تأويل سلوك ومواقف الغير انطلاقا من فكرة المعيش المشترك، وضرورة التخلي عن الأحكام والمواقف المسبقة، فالغير ذات أخرى تشبه الأنا لأنها تعيش نفس تجربته الوجودية والعاطفية والمعرفية، ويسمح التوحد الحدسي ببناء نسيج من المعرفة بين الوعيين نظرا لأنهما يقتسمان عوالم مشتركة من الرموز والمعاني والقيم. إن الغضب، والحب، والكراهية، والألم، والخجل... كلها مشاعر تجد تعابيرها في الجسد عبر قسماته وتعبيراته، تدل على عالم نفسي داخلي ندركه بالتوحد الحدسي.
وعلى الرغم من أهمية المنهج الفينومينولوجي وقيمته في النظر إلى الغير بوصفه وجودا ضروريا بالنسبة لوعي الأنا بذاتها، واعتبار عالم البينذاتية شرطا لبناء عالم موضوعي، مع إمكان معرفة الغير داخل وضعيات فينومينولوجية، إما بواسطة التوحد الحدسي أو التعاطف عند ماكس شيلر؛ إلا أن معرفة الغير معرفة شاملة ودقيقة، خصوصا لعالمه الداخلي النفسي، أمر لازال مثار شك وجدل بين الفلسفات المعاصرة. وفي هذا السياق يرى "غاستون بيرجي" أن كل رغبة صادقة في معرفة الغير والتعاطف معه رغبة مآلها الفشل، اعتبارا لعزلة الأنا الوجودية، فكل ذات تعيش حميميتها وعزلتها الخاصة عن عالم الغير. إن تلك الحميمية التي يعيشها الأنا مع ذاته حميمية تظل العائق الأكبر الذي يحول دون معرفتي للغير، كما تحول في الآن ذاته دون معرفة الغير لذاتي وحقيقتي. إن عالمي الداخلي موصد أمام الغير بمقدار انغلاق عالمه أمامي. فالإقرار بأن الغير ذات اعتراف بخصوصية عالمه الداخلي، له أسراره وتجاربه ومشاعره الخاصة التي يحياها بمفرده، ويستحيل أن يشاركه فيها أحد. إن العلاقة إذن بين الذات والغير هي علاقة انفصال. وهذا الانفصال لا يلغي وجود الرغبة في التواصل، لكنه تواصل سيظل لغويا وليس تواصلاً وجدانيا. وهذا ما يجعل معرفة الغير في حميميته معرفة مستحيلة. "هكذا هو الإنسان، سجين في آلامه، منعزل في لذاته، ووحيد في موته".

ومع ذلك، فإن هذه المواقف النظرية التي تعتبر معرفة الغير غير ممكنة بحكم تفرده وعزلته، تتجاهل أهمية التواصل الإنساني معه، فهناك معرفة متبادلة بين الأنا والغير، فمن يرفض التواصل، ينغلق بذاته عن عالم الغير، فهذا الأخير حاضر في مجالنا الإدراكي، ومعرفته ممكنة لأنها شرط معرفتي لذاتي، وهذا ما يحاول الفيلسوف "ميرلوبونتي" الدفاع عنه في عمله "فينومينولوجيا الإدراك"، إذ تلعب اللغة دورا أساسيا في إخراج الذات من عزلتها الخاصة وانفتاحها على الذوات الأخرى.


تركيب

يمكن أن نستنتج من تحليلنا ومناقشتنا لإشكال معرفة الغير أن هذه المعرفة قد تقوم على المماثلة إذا كانت ذات بعد إنساني، قيمي وأخلاقي؛ فالبعيد والمختلف والغريب يشبه الأنا في صفاته الكونية الكلية، فهو إنسان له حقوق أساسية، إذ إن هذه المماثلة لا تلغي الاختلافات والتمايزات بين الأنا والغير، فمعرفة الغير ممكنة إذا ما تم قبول خصوصياته واختلافاته، لكنها تصبح صعبة إذا تم استبعاد المشترك بين الناس، فما هو أساسي في هذه العلاقة المعرفية ذات البعد الأخلاقي، هو حضور العالم البينذاتي، مجالا لتحقق القيم الإنسانية العليا، قيم التضامن والمحبة والسلام.





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-