منهجية تحليل نص فلسفي : العلاقة مع الغير
العلاقة مع الغير
النص :
"توجد لدى الكائنات التي لا تتخذ من نوعها فريسة لها، والتي لا تحركها دوافع عدوانية، رغبة ملحوظة في الاجتماع ببعضها. وتبدو تلك الرغبة جلية أكثر عند الإنسان لكونه الكائن الوحيد الأكثر ميلا إلى العيش في مجتمع بفعل ما يمتلكه من مؤهلات، فلا يمكن أن تتولد لدينا أي ميول خارج المجتمع. إن العزلة لهي أقصى عقوبة يمكن أن يتعرض لها المرء، إذ بدون مؤانسة الآخرين تصير كل لذة مملة، ويصبح كل ألم قسوة لا تطاق، فمهما تعددت الانفعالات التي تحركنا، كبرياء، أو طموحا، أو رغبة في الانتقام... فإن مصدرها واحد: هو التعاطف؛ وهذه الانفعالات تكون عديمة القيمة ما لم نأخذ بالحسبان أفكار وأحاسيس الغير. لنفترض أن كل قوى الطبيعة وعناصرها قد تعاونت على خدمة شخص واحد، وأن الأرض تهبه بسخاء كل ما هو نافع وممتع، فإنه سيظل بئيسا ما لم يوجد شخص يشاطره السعادة ويمنحه التقدير والصداقة...".
تحرير الموضوع:
مقدمة:
يعيش الإنسان حياته الفردية والجماعية داخل نسيج من العلاقات يحيط به من الميلاد حتى الممات. وتعتبر هذه الميزة من مميزات الوضع البشري التي لا يستطيع الإنسان تجاوزها مهما بلغت إرادته وإمكاناته. إن وجوده داخل الجماعة وبين أغياره يبقى هو الأساس. وغالبا ما تنسي ألفة العلاقة طرح الأسئلة المتولدة عن هذا الوضع، من قبيل تلك التي تخضع إشكال وجود الغير مع الذات. ويطرح علينا النص هذا الإشكال بصيغته الخاصة. فما هي طبيعة العلاقة مع الغير؟ وإلى أي حد يمكن قبول أطوحة النص؟
تحليل:
ينطلق النص من تأكيد عام يخص وضع الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى، مؤداه أن وجود الغير وجود ضروري في حياته؛ وهي ضرورة تشرط كل مستويات وجوده، سواء في علاقته مع ذاته أو مع غيره أو مع العالم. وهو التحديد الذي يتأكد حين يتم عزل أو إبعاد أو نفي الإنسان عن جماعته أو عن الأغيار.
يؤكد النص أطروحته من خلال الانطلاق من معطى أنتروبولوجي، أساس مضمونه أن الإنسان ينتمي إلى فئة الكائنات الحية (الثدييات) التي تميل تقريبا بطبعها إلى الاجتماع والحياة مع الغير المنتمي لنفس النوع، بل وحتى مع باقي الحيوانات غير المفترسة والمدجنة. ويرجع ذلك، حسب صاحب النص، إلى المؤهلات أو الاستعدادات التي استطاع الإنسان تطويرها عبر تاريخه وتربيته. تطور انتهى إلى اعتبار المجتمع هو البداية (لأنه يتكفل بطقوس الاحتفال الميلاد) والنهاية (لأنه يتكفل بطقوس الدفن). فهو كل شيء أو تقريبا. وتظهر هذه المسألة بوضوح تام في درجة قوة ارتباط الناس بمجتمعهم، والمتمثلة في ردود الفعل إزاء العزلة التي تعاش باعتبارها تمزيقا للروابط وأقسى ما يمكن أن يتعرض له المرء؛ ذلك أن حضور الغير هو الذي يعطي الحياة حرارتها وحلاوتها، وحتى مرارتها، غير أنها تبقى مرارة مقبولة مقارنة بمرارة الوحدة التي هي بمثابة تجميد لكل ما هو حي. إن ضرورة وجود الغير تتجلى بوضوح تام في طبيعة التعاطف الذي هو تعالق وترابط مع الأغيار، وتوليد للمعنى وفتح للآفاق في العلاقات الإنسانية. العالم لا يكون عالما إلا بحضور الغير ومعه، بل وبفضله. لهذا مهما كان سخاء الطبيعة ومهما كان جودها، فإنه لا يساوي وجود الغير حتى لو لم يكن هذا الغير بنفس سخاء الطبيعة؛ فالوجود الحق هو بجانب الأغيار ومعهم ومن أجلهم. كل شيء يولد في العلاقة معهم. والشقاء يكون في البعد عنهم. وهو بعد مستحيل وغير ممكن إلا في الحالة المرضية أو الجنون التام الذي يضيع فيه كل شيء. إنها الأطروحة التي يدافع عنها النص.
مناقشة:
تعتبر الأطروحة التي يقدمها هذا النص، أطروحة قوية لا يمكن إلا تأكيدها وإبراز قوتها رغم الاعتراضات التي قد تقوم ضدها. إن وجود الغير معطى أساس في حياة الإنسان؛ فميلاده ومجيئه إلى العالم هو من فعل رجل وامرأة، أو بالأصح أب وأم تجمع بينهما علاقات اجتماعية داخل مجتمع معين. فميلاد الإنسان يمكن اعتباره هدية أو تتويجا للعلاقات، وشهادة على أن البداية هي مع الغير. وتصدق نفس الملاحظة على الوعي بالذات وتكون صورة الذات عن ذاتها وغيرها. فالغير هو المرآة التي لابد منها. ولا يهم درجة صفاء المرآة، ذلك أن مفعولات المرآة بالنسبة للإنسان لا تمر عبر حاسة البصر فقط، بل تمر عبر باقي الحواس وعبر الحدوس. لا تبني عقليا فقط وعبر المفاهيم، بل تبنى حدسيا، إنها ما يتشكل منذ اللحظات الأولى، قبل الوعي وكمال الإدراك؛ فهي قبل وبعد. ومن ثمة لا تتعرف الأنا ذاتها حقا إلا عبر وساطة الغير وبفضله. أكيد أن العلاقة مع الغير ليست سهلة وبديهية، ولكنها أساسية جدا. وهي إطار للصراع من أجل الاعتراف والاستجابة للرغبات وتوليدها. ليس ثمة من انغلاق، بل انفتاح متجدد لا يتوقف عن الاغتناء. ومهما كان اكتفاء الذات بذاتها، فإنه اكتفاء ظاهر وزائف، وفي كل الأحوال يتحدد بصفته رد فعل إزاء الغير، وبالتالي لا يتخلص منه. طبعا، يمكن الدفاع عن نوع من الخصوصية الفردية والشخصية، ولكن تلك الخصوصية ذاتها، وتلك الحميمية هي بدورها نتاج لانصهار كثيف لكل من الوعي والإحساس والقيم والإدارك. لهذا يمكن اعتبار هذه الأطروحة أطروحة أساسية تعكس جوهر الوجود الإنساني فيما يحدده تحديدا لا خلاص منه.
تركيب :
إن العلاقة مع الغير هي علاقة لا يمكن استنزاف مضامينها. فهي علاقة مفتوحة وغنية. ويمكن القول عنها إنها ما يجعل الإنسان إنسانا، فبفضل هذا الارتباط بالغير كانت اللغة، والعقل، والوعي، والرغبة، والتعاطف، والمجتمع، والحضارة، والتاريخ. بفضل هذا الحضور كان كل ما يحمل طابع الإنسان والإنسانية. وما تبقى مجرد تفاصيل.