ملخّصات الفلسفة | الوضع البشري : مفهوم الغير


ملخّصات الفلسفة | الوضع البشري : مفهوم الغير

المجزوءة الأولى : الوضع البشري : مفهوم الغير

للسنة الثانية من سلك الباكالوريا / المسالك العلمية والتقنية؛ مسلكا الآداب والعلوم الإنسانية

 
ملخّصات الفلسفة | الوضع البشري : مفهوم الغير

مفهوم الغير


تقديم المفهوم


إن قيمة الشخص لا تكمن في عزلته، بل في انفتاحه على الغير. فليس الشخص ذرة معزولة، ولا هو كيان مستكف بذاته، بقدر ما هو وجود مشروط قبليا وموضوعيا بالتواجد مع الآخرين.

لذلك أكدت أطروحة "ج.غوسدورف" على الترابط الوجودي بين قيمة الشخص ومدى انخراطه مع جماعة الأغيار في تحقيق القيم الإنسانية العليا والمشتركة التي عبرها يمكن للشخص أن يصبح شخصا أخلاقيا.

إن هذا الغير يسكن داخلي حتى لحظة استبطاني لذاتي، إذ بدونه لا يمكن الوعي حتى بتلك المشاعر والانفعالات البسيطة، مثل الخجل والغيرة. علاقتي مع ذاتي تمر عبر حضوره الفعلي أو الرمزي، سواء أكان ذلك الغير قريبا أو بعيدا. مما يطرح في الأخير إشكالات فلسفية تخص نمط وجود الغير وإمكان معرفته وطبيعة العلاقة الأخلاقية الممكنة معه.

فهل وجود الغير وجود ضروري للشخص وللأنا؟
وهل يمكن معرفة هذا الغير؟ وأية علاقة ممكنة معه؟


وجود الغير


لقد دشنت فلسفة ديكارت "تأملات ميتافيزيقية"، في تاريخ الفلسفة، بداية لفلسفة الوعي، بوصفه تجربة الأنا المفكرة و القدرة على إدراك ماهيتها ووجودها. إلا أن هذه الأنا المفكرة، عندما تعي ذاتها ووجودها باعتبارها أنا مفكرة عبر تجربتها الفردية، فهي تدرك موجودات مشابهة لها. فهل هذه الموجودات لها خاصية الوعي بذاتها؟ وهل يمكن أن يتحقق تواصل بين وعيي ووعيها؟ إن الجواب الذي يقدمه ديكارت عن هذه الأسئلة، جواب يظل وفيا ومنسجما مع منطلقاته الأولية : فالأنا المفكرة لا تعي إلا ذاتها، ووعيها هذا هو أساس كل معرفة، ومن ثم لا يمكن معرفة ذلك الشبيه (الغير) إلا عبر معرفة الأنا، وبواسطة استدلال المماثلة، إلا أنه استدلال لا يمكن أن يبلغ درجة اليقين الذي تملكه الأنا حول ذاتها، وهو ما جعل فلسفته تنعت بالوحدانية والانغلاقية.

ويمكن اعتبار الفلسفة التي سيصبح معها الغير وجودا ليس معترفا به باعتباره وجودا واعيا، بل أكثر من ذلك وعيا ضروريا لكي تحقق الأنا وعيها بذاتها. لقد قدم "هيغل" في كتابه "فينومينولوجيا الروح"، لحظات ثلاث يصبح فيها الوعي وعيا بالذات، عبر صراع الرغبة وجدلها بين وعيين متضادين (جدل العبد والسيد)، وهو صراع لابد أن ينتهي إلى إخضاع الوعي الآخر وانتزاع اعتراف منه، وهو شرط ضروري لتحقق الأنا وعيها الفعلي.

لقد أصبح وجود الغير، بدء مع فلسفة "هيغل"، ضرورة وجودية، وإشكالا فلسفيا، ستهتم به أغلب الفلسفات اللاحقة على "هيغل"، فهل وجود الغير تهديد للأنا (الشخص)، أم شرط وجوده وإغناء له؟

لقد اعتبر الفيلسوف الألماني "مارتن هايدغر"، في كتاب "الوجود والزمن"، وجود الشخص داخل الحياة المشتركة مع الآخرين وجودا يفقد الشخص هويته، وينزع منه إمكاناته وتفرده، فيغدو ذاتا تشبه الآخرين كأنه لا أحد. وبعبارة "هايدغر"، يذوب الوجود مع الآخرين، حيث الهيمنة التامة للمشترك في كل المجالات العمومية، وهي هيمنة تنتهي بتحويل الذوات المختلفة إلى ذات مشتركة، حيث نفس نمط التفكير والفعل.

ويبلغ هذا التهديد، مع "سارتر"، حد التشييئ، إذ يعمل الغير، عبر التعالي والنظرة، على شل عفويتي وحريتي وتحويلي إلى موضوع خارجي هو موضوع لأحكامه القيمية، مما يفترض، لتجاوز هذا الوضع، العمل على أن أتعالى عليه باعتباره شرطا للحفاظ على حريتي. إن التعالي، بوصفه تلك الحركة التي تميز الشخص عن الأشياء، وهو السبيل الذي يسمح للأنا بتجاوز وضعية التشييئ التي يفرضها علي وجود الغير. لكن ومع ذلك يظل وجوده، كوعي، ضروريا لوعيي بذاتي؛ إنه ذاك الوسيط الضروري بيني وبين ذاتي، مادمت لا أستطيع أن أكشف أبسط عواطفي وانفعالاتي النفسية (مثل الخجل)، إلا داخل حضوره الفعلي أو الرمزي.


تركيب

يكشف حضور الغير في تجربة الأنا الواعية، من جهة، عن هذا الغير بوصفه ضرورة وجودية، ما دام الشخص محكوما عليه بالعيش داخل الجماعة ومع الأغيار والأشباه، ومن جهة أخرى، عما يشكله هذا الحضور من تهديد لهوية الشخص وتفرده، وأيضا من تشييئ. إلا أن وجود الغير شرط ضروري لإمكان معرفة الشخص لذاته بوصفه وعيا. فهل يمكن معرفة ذلك الغير باعتباره وعيا بذاته؟




معرفة الغير


لقد أصبح وجود الغير مع "هيغل" ضرورة وجودية، وحقيقة فلسفية حاضرة بقوة في كل فلسفات الوعي، غير أن معرفة هذا الغير ظلت إشكالا فلسفيا: كيف أتعرف على الغير؟ هل أعرفه كما أعرف الأشياء، علما بأن نمط وجوده يختلف عن نمط وجود الأشياء، لأنه شخص وأنا آخر يعي ذاته ويعي العالم؟

يرى "إدموند هوسرل"، في كتابه "تأملات ديكارتية"، أن وجود الغير حاضر في الكوجيطو والوعي، على اعتبار أن الوعي تجربة تستحضر دوما الآخرين (نحن)، وباعتباره أيضا تجربة قصدية، ما دام الوعي هو دوما وعيا بموضوع ما. وفي قصدية الوعي، وبنياته، وتخارجه لا تدرك الأنا الآخرين بوصفهم مجرد تمثلات داخلية لأناي أو وحدات تركيبية لسيرورات تقع في دواخلي، بل تدركهم بما هم موضوعات العالم وذوات واقعية، وهو إدراك يتم عبر سلسلة من التجارب التي تعيشها الأنا.
يوجد الغير إذن مع الأنا في العالم، لكن ليس على غرار الأشياء، بل بوصفه ذاتا تشبهني وتختلف عني؛ وعن طريق التوحد الحدسي به، انطلاقا من وحدة العالم المشتركة والمدرك بيني وبين الغير، يصبح هو أنا وأنا هو، الأمر الذي يسمح ببناء عالم بينذاتية الذي يؤسس العالم الموضوعي، وذلك على أساس أن العالم الذي أدركه وأدرك فيه الآخرين الذين يبدون لي كذوات فاعلة في هذا العالم، ومن ثم فهي ذوات لها نفس تجربة الأنا في هذا العالم، كما أنني أملك تجربة العالم وفي داخله تجربة "الآخرين". إننا بهذا التحليل يمكن، حسب "هوسرل"، أن نجيب عن السؤال الجوهري وهو: كيف يمكن لأناي، داخل وجوده الخاص، أن يبني "الغير" بوصفه موجودا غريبا؟

ولا يخالف "سارتر" القول بقصدية الوعي، ولا وجود الغير في العالم، إلا أن وجود الأنا ووجود الغير يفصل بينهما عدم لا يمكن تجاوزه، عدم ينبثق من طبيعة العلاقة المكانية التي تجمعني بالغير، والشبيهة بتلك العلاقة التي تجمع بين الأشياء التي ليس بينها وشائج ما. وهو عدم يتمظهر في تلك التجربة التي تتوخى معرفة الغير، وهي معرفة تنتهي دوما إلى تحويله إلى مجرد شيء من أشياء العالم. كما أن سعيه إلى معرفتي سعي يحولني إلى شيء. إن وجود الغير وسيط ضروري لوعيي بذاتي، لكن معرفته أمر غير ممكن. لذلك اعتبر "بيرجي" كل رغبة صادقة في معرفة الغير والتعاطف معه رغبة مآلها الفشل، كما اعتبر عزلة الأنا، وانغلاق عالمها مثل انغلاق عالم الغير أمام الأنا: "هكذا هو الإنسان، سجين في آلامه، ومنعزل في ذاته ووحيد في موته... ومحكوم عليه بأنه لا يشبع أبدا رغبته في التواصل، والتي لن يتخلى عنها أبدا."

إن المواقف الفلسفية القائلة بفكرة التشييئ (سارتر مثلا) والتي تعتبر معرفة الغير أمرا غير ممكنا، هي حسب "ميرلوبونتي" مواقف تتجاهل أهمية التواصل الإنساني، بوصفه العامل الإيجابي، في تحقيق المعرفة المتبادلة بين الأنا والغير. فلا تحولني نظرة الغير إلى موضوع، ولا تحوله نظرتي إلى موضوع، إلا عند الانغلاق على الذات ورفض التواصل. وقد يتوقف التواصل لكنه لا ينقطع، ما دام الغير يحضر، في المجال الإدراكي المشترك، باعتباره جسدا مثل جسدي، حاملا للدلالات والمعاني. إن معرفة الغير ممكنة، لأنها أصلا معرفة لذاتي المشروطة بحضور الغير، كأفق إنساني لحضوري الذي لا ينفصل عن العالم.

وإذا كان "ميرلوبونتي" قد اعتبر معرفة الغير ممكنة عبر التواصل، فإن "ماكس شيلر" في كتابه "طبيعة التعاطف وشكله"، سيؤكد نفس القول، بالتركيز على أهمية "التعاطف الوجداني"، وضرورة "إدراك الغير بوصفه كلا متكاملا". فالغير جسد وانفعالات، ومشاركتي له وتعاطفي معه يسمحان بمعرفة دلالة ما يقوم به أو ما يشعر به.


تركيب

تشكل معرفة الغير إشكالا فلسفيا مفتوحا، رغم إسهامات كثير من الفلاسفة، لأنها تطرح في العمق ما يحدد إنسانية الإنسان وتفرده. فقد تشكل معرفتي للغير تشييئا له، وقد يسمح العالم المشترك، وما يحمله من دلالات، من إدراك هذا الغير داخل وحدة التجربة الإنسانية.




العلاقة مع الغير


إن العلاقة مع الغير معقدة وملتبسة، فهو يحضر بأسماء متعددة وأشكال متنوعة: قد يكون غريبا وبعيدا لحد الشيئية والغرابة والصراع، وقد يكون قريبا منا لحد التماهي معه. قد يعترف بنا، وقد يتجاهلنا، قد يدافع عن حقنا في الحياة وقد يعمل على حرماننا من هذا الحق. قد يفتح أمامنا أبواب الجحيم أو قد يغلقها. فالعلاقة معه تظل مفتوحة على كل الاحتمالات والإمكانات.

ولعل الصداقة من أهم أنواع العلاقات الوجودية الممكنة مع الغير، وفضيلة من الفضائل الأخلاقية التي ركز عليها الفلاسفة. ففي الصداقة تختار الأنا الانفتاح على الغير، بشكل إرادي وحر، بدون إكراهات القرابة أو غيرها. لذا فالصداقة، حسب "كانط"، هي اتحاد بين شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب والاحترام، إنها ذلك "المثال" الأعلى للتعاطف والتواصل بين الناس والذي غايته خير الصديقين. وما دامت الصداقة صادرة عن إرادة طيبة محكومة بالمبادئ العقلية الكونية، فهي واجب عقلي يفرض علينا الخضوع والاحترام. ولا تتحقق الصداقة، حسب "كانط"، إلا داخل توازن ضروري بين الحب والاحترام.

وهي من جهة كونها واجبا عقليا، فهي غير مشروطة بالميولات والمنافع المتبادلة. قد لا تؤدي الصداقة بالضرورة إلى السعادة، لكن مع ذلك، تجعل الشخص مؤهلا للبحث عنها، مادامت تجربة الصداقة تعلم الشخص الإنصات للواجب العقلي بدل الخضوع للأهواء والمصالح الشخصية التي تجعل من الغير، بما هو شخص، مجرد وسيلة ومطية لتحقيق غايات ذاتية. لذلك يعتقد "أوغست كونت"، في كتاب "مواعظ وضعية"، أن المطلوب من الشخص هو الابتعاد عن الأنانية الهمجية، وتأسيس انسجام أخلاقي قوامه الغيرية. ولا تعني الغيرية عنده سوى الاعتراف بفضائل الإنسانية على الشخص، فضائل لا يمكن لأي واحد منا أن يرد ولو النزر القليل منها إلى الإنسانية، لكن بالمقابل يمكن أن يجعل وجوده في خدمة الغير والإنسانية جمعاء، وأن يجعل من واجبه العيش من أجل الغير، لأن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لتطوير كل الوجود البشري.



خلاصة عامة

يسمح إشكال العلاقة مع الغير، بالانتقال بالمفهوم من مجال الوجود والمعرفة إلى مجال الممارسة. فقد يشكل وجود الغير تهديدا للأنا أو إغناء لها، وقد تكون معرفته ممكنة، مثلما تكون صعبة ومستحيلة.

غير أن المهم هو حضور الغير وبقوة داخل عالم مشترك، والأهم هو جعل هذا العالم المشترك مجالا لتحقيق القيم الإنسانية العليا، قيم الصداقة والغيرية والتعايش، والتضامن، والاحترام والحب.


تعليقات