من ماريا كساريس إلى ألبير كامو : لا توجد لحظة واحدة أنت لستَ فيها

من ماريا كساريس إلى ألبير كامو



من ماريا كساريس إلى ألبير كامو 

الإثنين 11 جويلييه 1949 (الجزء الثاني من الرسالة)


لا توجد لحظة واحدة أنت لستَ فيها


حبيبي. 

يحدث لي أحيانا أن أقضي اليوم كله على متن زورق في نهر لامارن. وقليلا ما يأتي ما يكسر نظام يومي بسبب حصص الراديو. لهذا قرّرت ترتيب مواعيدي بين السادسة والثامنة، في بيتي. وإذا حدث وذهبت لحضور عرض مسرحي، يكون ذلك في السهرة. 

أدخل في سريري باكرا، لكني أنام متأخرة (حوالي الساعة الثانية صباحا)، وأستيقظ عادة في حدود التاسعة صباحا. وأمضي أغلب الصباحات أتجول على أرصفة النهر. 


أقرأ حاليا مذكرات تولستوي. ورواية لو ماس تيوتيم  Le Mas Théotime، وكيف ينتهي الحب  (تولستوي). وذهني في كومة المسرحيات التي تنتظر أن ألتفت إليها. بالنسبة للعروض، فهي قليلة، أهمها: آنا مانياني  في أنجلينا الشريفة، وإديث بياف. 


علاقاتي محدودة. أرى من حين لآخر بيير رينال، وكثيرا ميراي دوريون، ولكننا لا نتحدث إلا قليلا.


وأبي طبعا. حضوره يساعدني جدا، أكثر من أي شخص آخر، على الرغم من اختلافنا، لا نلتقي دائما في نفس القناعات. وخوان، أنجلس، والحفيدة التي تؤدي دور الخرساء لدرجة أن تظنها بكماء. 

الباقي عمل دائم، الراديو، الحظ. 



روبير جوسو تلفن لي اليوم من "كان" ليقول لي: أكتبي لداكار. لكن الرسالة كانت قد سافرت. شكرته للدفء الذي زرعه في قلبي. حقيقة، إني أحبه كثيرا.


تغذيت مع ميشيل وجانين غاليمار، اللذين كانا طيبين جدا معي. 

روني شار، بعث لي بكتابه الأخير: كلير. مع إهداء دافئ مسّني في العمق.


لا حدث يذكر، إلا دورة فرنسا للدرجات الهوائية. ما تزال مستمرة بعدد المتسابقين الكثيف وضجيجها، كالعادة. شيء واحد اختلف في هذه الدورة عن السابق. حتى آخر المتسابقين لن ينجو من الجائزة. جريدة لومانيتي منحت، هذه السنة، جائزة لكل متسابق يصل في نهاية القافلة إلى إسبانيا.  لك أن تتخيل استقبال الجمهور في الجهة الأخرى من الحدود؟ 


إضافة إلى دورة فرنسا، هناك محاكمة جوانوفيتش. لكن خارج هذه الأحداث، عاصفة غريبة في البرتغال، وأحداث متنوعة كثيرة: مواصلة بعض الأطفال قتل آبائهم أو أمهاتهم. 


بالنسبة لي، وبالنظر إلى عدد الذين ألتقي بهم، لا أعتقد أني كنت أجمل مما أنا عليه اليوم، حركة ليل نهار، بلا توقف. شيء لطيف. روجي بيغو  الذي رأيته قبل أيام، لم يصدق أني أنا، البارحة في شارع فرانسوا الأول، ربما بسبب الألوان. 


هذا بالنسبة للخارج. بالنسبة للداخل، الأمر أكثر تعقيدا. لن أفصل كثيرا لأني سأضطر للإطالة. لكن هناك صعود ونزول. لنقل نزولا. لكني توصلت إلى مرحلة التحمل، أو ما يمكن أن نسميه: الاستسلام.


غيابك والجراحات التي فتحتها تمزقات الأيام الأخيرة المتوغلة في الأعماق، حولتني إلى مجنونة. ولكن الآن هدأ كل شيء، وأصبحت على ما يرام. ولو أن شعوري يقول لي بأن الجراحات هشة، يمكنها أن تنفتح من جديد لأي سبب صغير. الصور المؤلمة تستيقظ فيّ من حين لآخر، ولكن تحسُّني أصبح جليا. أفتح قلبي للحياة. لم أعد مثبتة كما كنت، على ألمي، عاجزة حتى عن تنفس الهواء الخارجي. مخنوقة. الآن، كلما عاودتني صورة خطيرة، لا أشعر في أعماقي بذلك الصوت الرعدي الرهيب، وتلك الثورة المجنونة، القبح الذي يضاف إلى ألمي ويحولني إلى كائن بشع، خفّ. لم أصل بعد على تلك النعومة، ولكنّني أشعر بشيء من الراحة يملأ رئتي بقليل من الهواء النقي. 

نعم. أشعر بنفسي أحسن. 



في النهار، أمر التحمل سهل. الشمس تحرق كل شيء فيّ لدرجة ألاّ أشعر بوجودي. لكن ما يصعب عليّ تحمله وأنا بعيدة عنك، هو المساء، ساعتنا الجميلة حيث أبدأ في التفتح مثل زهرة ليلية، حتى أنام. آه من الليل. في تلك اللحظات أرتمي على الكتب. التسلية الوحيدة التي أقبل بها، بينما التسليات الأخرى اخشاها في الوقت الحالي، ولا أريدها. 

الصباح الباكر ثقيل. وصعب. بمجرد استيقاظي، أركض نحو رصيف النهر. هذا يريحني. 



هذا كل شيء عنّي حبيبي. 

وأنت؟ احكِ لي عنك. احكِ بسرعة. قل لي عن كل شيء. هل رتّبتَ محاضراتك؟ هل أنت جاهز؟ حبيبي كم أتمنى أن أكون بجانبك. أن أتابعك. أن أنتظرك. تطلب مني الثقة؟ ستقرأ يومياتي. لم أكن أبدا صريحة مثلما أنا الآن، وأنت تعرف هذا. كنت سأبعثها لك لولا ثقلها.  لا يوجد شيء لا تعرفه عني، حتى وأنت بعيد. الجيد والسيّء، المؤلم والمفرح. حضورك يملأ المكان كله. لا توجد لحظة واحدة لم تحضر فيها. أقسم لك. 


أغادرك، أو بالأصح ـ أنتزع نفسي منك انتزاعا. احك لي عن أي تفصيل لتنيرني. من الصعب عليَّ تخيلك في تلك الأراضي المظلمة. كل ما تحكيه لي سيكون ثمينا. احك لي عنك. أنت. ما تفكر فيه. ما تفعله. وما تريده. احكِ عن كل شيء.



أنتظرك حبيبي. 

أحبك. أقبلك على كامل وجهك. كل جسدك الملتهب. أطوق رقبتك بذراعي واشدك نحوي. هناك أبقى.  

ماريا. 



تذكير: من المفروض أن أذهب لمهرجان بياريتس البائس، كما سبق أن وعدت، لمدة أربعة أيام، في آخر الشهر. لكن ليست لدي أية رغبة لذلك، على الرغم من الفستان الجميل الذي تم تجهيزه لي بالمناسبة. وكلما اقترب الموعد، شعرت بمغص رهيب يحتل جسدي كله، يمنعني من الذهاب. 

اِنصحني حبيبي. 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-