من ألبير كامو إلى ماريا كساريس
5 جويلييه 1949
في انتظار ذلك، مازلت هنا
إلى اليوم، لم أكتب إلاّ في كراسة يومياتي. ولكني كتبت بأمانة. هكذا، أنهي كل مساء، يومي قريبا منك. لم أضع شيئاُ مهما في الكراسة، سوى تفاصيل يومية من حياة رتيبة. فأنا لم أكتب في النهاية إلا لك. لم ألتفت إلا نحوك. ولا لون يملأني سوى لونك. هذه الرحلة كانت قاسية، انتزعتني بقوة منك، وفضلت ألاّ أكتب لك عن هذا الألم الفظيع الذي انتابني ولا عن الجبن الذي كنت فيه.
وعندما غابت اليابسة، وبعدها جبل طارق، ثم السواحل الإسبانية ومعها أوروبا، كلها، كنت في حالة بؤس.
بعد غد سنكون في داكار، وأستطيع أن أبعث لك برسالة من هناك. منذ يومين دخلنا في محيطك، المياه لم تعد زرقاء ولكن خضراء. في منتصف النهار شمس عمودية صفراء ملفوفة داخل كتلة من الضباب. تجاوزنا المناطق المدارية، ونتجه حاليا نحو داكار. لأول مرة يتكون لدي الإحساس كأني أسير باتجاه قلبك. صوب رسالتك التي أنتظرها. هذا الصمت، وهذا التجاهل القاهر سيتوقفان أخيراً. أملي أن تحمل لك رسالتي هذه، بعض أمل الحياة، حبا بسعة هذا البحر يرافقني بلا ملل منذ أيام كثيرة، وتحمل لك أيضا ندائي لك حبيبتي وثقتي فيك. يجب ألاَّ أنسى هذا: لن أصل يوم 20 إلى ريو، ولكن 15. أحسبي مواقيت الطيران واكتبي لي، أرجوك، حتى أجد رسالتك بانتظاري، ترافقني في رحلتي. هكذا لن يكون علينا تحمل ما كنت أخشاه، عشرين يوما من الصمت. من جهتي سأكتب لك بسرعة. ولكن هل أنا في حاجة لطلب ذلك منك؟
لا شك أنك تعرفين أن الحياة على متن السفينة رتيبة. عندي قمرة صغيرة، عارية، فيها الحد الأدنى للعيش. أحب هذه الأماكن الضيقة وهذه الأوضاع. لا يمكنني أن أتخيل الحياة على غير هذه الصورة الجميلة، خارج حضورك: أقوم على الساعة السابعة صباحا. أصعد لرؤية بحر الصباح. أفطر. أستحم ثم أذهب بعدها إلى المسبح (بعرض ثلاثة أذرع، وعمق يصل حد البطن)، أستلقي تحت أشعة الشمس، ثم أنزل بعدها للعمل. أتغذى وأستمتع ببحر منتصف النهار. أنام قليلا، ثم أعمل وأتعشى. وينتهي بذلك يومي بالقرب من البحر.
الجو جميل، ولم تصعد الأمواج، إلا بمحاذاة جبل طارق، أحب ذلك، وأحب تأمل الأشياء من على سطح السفينة: قارب شراعي للصيادين، أو مجموعة دلافين حرة، منطلقة في عرض البحر، بكبرياء. أشاهد بعض الأفلام الأمريكية السخيفة، التي لا أتحملها أكثر من ربع ساعة. وبعض النقاشات هنا وهناك. اطمئني، حبيبتي لا توجد بالسفينة نساء جميلات. على طاولتي أستاذ في السوربون، وشاب أرجنتيني، وشابة مسافرة لتلتحق بزوجها. نحكي كلاما بلا معنى، نبتسم، ثم نفترق. المرأة قاسمتني بعض خصوصياتها، يبدو أن لي جاذبية في جلب الخصوصيات، لكن ما يزعج، كونها خصوصيات شديدة التفاهة.
أفعل ما طلبت مني القيام به. أهتم بهندامي. أرتاح. في الأيام الأولى في النهار، يكفي أن أتمدد لأنام. كنت منهكا، كنت تقريبا أنام وأنا آكل. لكن الاستحمام، والشمس، والملل على متن السفينة، وتعقّلي (لا أتناول الكحول على متن السفينة) تعيد لي بعض نظامي. من كثرة التعرض للشمس، أصبحت بنيا وشهيا، ألبس كل ما هو مشرق، وأقول في تلك اللحظات، ربما أعجبك؟ ولكني أحتفظ بذلك لنفسي لأن غيابك يؤذيني. في كل دقيقة أقول لنفسي كيف كان يمكن أن تكون هذه الرحلة لو كنتِ معي؟ أنت، وأنا، والبحر من حولنا، بعيدان عن العالم وزعيقه، في عمق صمت الليالي المدهش، حيث تتحول كل الأشياء. لكن هذه اللحظات الهاربة تؤلمني. توقظ في الرغبة الخبيئة التي أخنقها أحيانا فيّ.
في انتظار ذلك، مازلت هنا. في مواجهة هذا البحر، وحده من يساعدني على تحمل كل شيء. كلما ظهرت تباشير الصباح في المد اللامتناهي، وعندما يحول القمر البحر إلى نهر من حليب يركض نحو السفينة، وعندما يصبح بحر الصباح ضبابيا، أتخيل هناك موعدنا الجميل، على سطح السفينة.
كل يوم ينتفخ قلبي في غيابك، مثل هذا المحيط، ممتلئا بالحب المرتبك الذي أفضله على الحياة كلها. أنت هنا. ناعمة مستسلمة لي كما أنا لك. هذا الحب أصبح صعب التحمل. لكن حبيبتي، كل شيء سيكون على ما يرام، وسنبدع موعدا آخر. أنتظر هذه اللحظة. أنتظر رسائلك، لنبدأ من جديد.
اكتبي لي بالتفصيل. احكي لي عمّا تفعلينه، وكيف أصبحتِ. في ماذا تفكرين. لا تنسي ثقتي الكبيرة فيك، وثقتك التي هي السند الوحيد للإجابة. قولي لي عن كل شيء. لا تهملي أي تفصيل، حتى ما يؤلمني. لا يوجد شيء فيك لا أتفهمه أو يرفضه قلبي. أعرف اليوم جيدا أني سأحبك حتى النهاية، مهما كانت درجة الألم. لم أحاسبك يوما، ولم أكرهك أبدا. لم أعرف شيئا معك عنك سوى حبك. وأحببتك بكل قواي وخبرتي الحياتية، بكل ما عرفته وتعلمته. فأنا لا أكره إلا نفسي أحيانا، كلما تسبّبت في شقائك، أو كارهة. لا يجب أن تنسي هذا. صورتك التي رحلت معي اخترقت الكثير من الآلام والكثير من المسرات، لن تذبل. هذا الوجه الغالي، الذي يتملكني، هو أثمن ميراث صاحبني في هذه الحياة.
انتظريني حبيبتي، متوحشتي، أنت حاضرة في هذا المساء أكثر من أي زمن مضى. أختنق بالدموع التي تسد حلقي وأنا أكتب لك. ولكنني أتخيل ابتسامتك. أراها مثلما هي على هذه الصورة التي أمامي، تعيد لي الأمل من جديد. السعادة القوية التي تأتيني من حضورك، هي أجمل شيء.
أين أنت حبيبتي؟ ضائع وسط هذه البحار التي تفصلنا. أناديك وأريدك أن تسمعيني، ويأخذك ندائي أخيرا، بعيدا عن الأحزان. أقبلك عن بعد غابت فيه المسافات. لا تنسي أني لن أتخلّى عنك، وأني أسير في أثرك، خطوة خطوة، وأني أسهر عليك، ومن أجلك، وسأكون قريبا منك حد التماهي.
ألبير.
المراسلات. ص 132-133
ترجمة : واسيني الأعرج