من ماريا كازاريس إلى ألبير كامو : سأعيش قدري كله، أنظر باتجاهك


من ماريا كازاريس إلى ألبير كامو : سأعيش قدري كله، أنظر باتجاهك



من ماريا كازاريس إلى ألبير كامو


30 جوان 1949. مساء


سأعيش قدري كله، أنظر باتجاهك. 



حبيبي، ماذا يحدث لك؟ نفس الجملة تتكرر في كل لحظة: اُكتبي لي في داكار. اُكتبي لي في داكار. اُكتبي لي في داكار.


حبيبي المسكين. بعد يوم من بعثي الرسالة الوحيدة التي استطعت إرسالها لك من أفينيون، عرفت أن باخرتك ستتوقف في داكار، وأنه يمكننا التراسل خلال هذه الوقفة. لم أستطع التواصل معك لأخبرك بوضعي، وانتظرت يومين متمنية أن يصلك الخبر وتقوم بما يجب القيام به. لم أتجرأ على الكتابة لك، خوفا من أن يكون سفرك قد تم تثبيته يوم 28. 


سعدت أن رسالتي قد وصلتك في الوقت المناسب. لكن حبيبي، لماذا هذا الإصرار المخيف للكتابة لك؟ ممَّ أنت خائف؟ رسائلك التي تمزق القلب، ممتلئة حرارة وذعرا؟ هل بسبب هذا الخوف المرعب المفروض عليّ؟ اسمعني جيدا. اسمعني. توقف ولا تتحرك، وأنت في وسط البحر الذي يحيط بك من كل جانب. بحري أنا. اسمع. أحب كثيرا هذا المحيط ولا يمكنه أن يخدعني، أو يبقى أصمّ لنداءاتي. 


ثم ماذا لو تتخلص من كل هذه الهواجس التي تسببتُ لك فيها للأسف. ماذا لو تتخلص من هذا الرعب الذي أسكنتُه في مخيلتك. ماذا لو تغلق أذنيك ولا تسترجع جملي القبيحة التي نطقت بها؟ وأخيرا ماذا لو تلتفت عاريا باتجاه الماء الذي شكلني، ستسمعني حبيبي أصرخ كما لم أصرخ أبداً أمامك، وبالقرب منك. لا تشغل بالك حبيبي. أعرف جيداً هذا الجحيم وأعرف أيضاً إلى أين تقودك الصور المرعبة التي لا أتحمّل حتى فكرة أنك ستعيشها بسببي. اِرم بكل هذا بعيدا عنك. لا تضف معاناة جديدة لمعاناتي الثقيلة التي أتحملها بصعوبة. 


البحر أمامك. انظر كم هو مثقل وكثيف وغني وقوي. انظر كم هو حي. مرعب بقوته وطاقته. تذكر فقط أنه بسببك أصبحت أشبهه قليلا. وتأكد أنه كلما أصبحت متيقنة بحبك لي، لن أغار من جمال البحر، سأحبه كما لو كان أخا لي. 


يحدث أن أشعر بنفسي منهكة، بائسة، عقيمة، فقط لأني وضعت نفسي في دائرة الشكوك. ولكنك أنت بحبك لي، قريب مني، حياتي بك تصبح ممتلئة وتستحق أن تعاش. 


أنا حبيبي، ولا أحد غيري، عليّ أن أعيد الحياة لكل قواها، خلال هذين الشهرين الطويلين حتى لا تنتابني الشكوك. أنت مطلوب منك أن تحبني فقط. أن تحبني كثيرا. لا أحتاج لشيء غير هذا لأشعر بنفسي كبيرة، منتشية، ومسكونة مثل هذا المحيط، مثل هذا الكون. هذا فقط ما يجب عليك فعله ليستعيد وجهي نضارته، التي تحبها. انتصارنا وربحنا للمعركة يمرّ من هنا، وليس من مكان آخر. 


منذ سفرك، مررت بحالات صعبة ستعرفها بوضوح أكثر إلى حد ما، عندما تطلع على يومياتي. أكتب لك في كل مساء ولا أعتقد أني تحدثت بصدق مثلما فعلتُ.  

عانيت الأمرين، وما زلت. باستثناء يوم أو بعض اللحظات هنا وهناك، في بداية فراقنا، لم تخالجني بعدها أية شكوك قبيحة. 


ولكني بالمقابل، لا أستطيع ألا أفكر في تلك الأيام الطويلة القادمة، التي تمضي دون أن أشعر بقلبي يتهاوى. ويبدو لي من الصعب فعل أي شيء آخر. مع أني أبذل جهوداً معتبرة لأني لا أريد أن أترك نفسي طعما سهلا لهذا التلاشي، وأنت موجود فيّ. وأنا. وما ينتظرنا. 

أتحرك وأبحث عن كل ما يخرجني من هذا الوضع العكر الذي تخترقه حالات الضيق العنيفة. لم أعد أتحمل طبعاً الناس والجيران، وأهرب دوما منهم أو أهملهم. بيتو الوفية وحدها من تلازمني وتبقى معي. 


أقرأ بصعوبة حتى ولو أنه منذ يومين تحسن وضعي أكثر. وهذا أسعدني بشكل كبير. لهذا اخترت رفقة أصدقائي الدائمين: الشمس، الهواء، والماء. كلما بقيت في البيت، أقضي وقتي كله في البلكون. وكلما قررت الخروج، أتفسح في الحدائق وفي الممرات، أو أذهب مع ميراي إلى جوانفيل. نكتري قاربا ونصعد نهر لامارن، فنقضي الساعات الطويلة في الماء، ننام، نجدّف، ونستحم، ثم نأكل سندويتشات. أصبحت ناعمة، أشبه خشب الأكاجو، في وقت قصير. وعندما أعود من هذه الجولات، أكون ممتلئة بالحياة. للأسف، هذا يأتي عنيفاً، محملا الحرارة الحنين، بالطاقة، بالرغبات وإذن... أندهش من نفسي لأني لا أستطيع النوم (لا تسخر مني) وأتقلب في فراشي مثل نمرة هائجة وراء القضبان. شيء أقوى مني حبيبي. ويؤلمني في مهوى بطني. شيء غريب؟ 


على أي، هذه هي حياتي عموما. بالنسبة للمشاريع ما زلت في نفس النقطة. نعمل على أورفي  Orphée، ولكني لا أملك تفاصيل التصوير. لا أعرف شيئا عن إيبيرتو Hebertot. من حسن الحظ أن وضع والدي تحسن في اليومين الأخيرين. الطبيب سيزوره هذا الاثنين وبحسب المعاينة، سنتخذ قرارات الصيف. أتمنى في رسالتي القادمة أن أكون قد عرفت بدقة وضعي. لن تصلك رسالتي القادمة إلا في 20 وربما بعد هذا التاريخ. إلهي هل هذا محنة لاختباري؟ لا أعرف حبيبي ولكنها إذا كان الأمر كذلك، فسأتحمله. رفضت اليوم التصوير في مصر. ومهما كلفني الأمر، لم أعد قادرة على أن أفرض على نفسي وبمحض إرادتي، فراقا آخر لمدة شهرين ونصف، ثقيلين. مجرد التفكير في ذلك، يشعرني بالاختناق. 

لا حبيبي. دوما معا. فنحن لا نعرف ما تخفيه لنا الحياة. الرب وحده يعرف ذلك. أنا الآن أعلم فقط ما يجب عليّ فعله، كيفما كانت الحياة، سأعيش قدري كله أنظر باتجاهك. 


إلى اللقاء حبي الجميل. متى يمكنني أن أقول إلى لقاء قريب بين ذراعيك. أبدا حبيبي، لم يحدث أبدا أن أحببت بهذا الإحساس الذي لا يطاق، بالحاجة إلى حضور من أحب، في كل دقيقة. جسدك ملتصق بجسدي، ذراعاك من حولي يطوقانني، رائحتك، ونظرتك وابتسامتك. وجهك الجميل الذي أستطيع أن أوصّفه، تفصيلا تفصيلا، على الرغم من أني أفتقده لأني لا أستطيع أن أراه مضببا قبل أن يمّحي في حركته. ما هذا العذاب الشنيع؟ يكفي أن يكون موجودا هنا ليمّحي كل تبقّى. 

إلى اللقاء قريبا حبيبي. أحب خطك الكثيف. أنتزع نفسي منك بصعوبة، مثلما في كل مرة. لا أجد القوة الكافية لتحمل فراقنا. أحبك. عشْ. كنْ الأسعد قدر ما تستطيع. أنت في عمق المحيط. كم ستكون سعيدا لو تريد. أحبك حبيبي. سامحني عن كل ما صدر مني. أومن بك وأحبك بكل روحي. أقبلك بقوة. 


ها أنا ذي حارسة رغبتنا أكثر من حياتي، ومستعدة للسعادة المذهلة يوم أراك يوما هنا، ملتصقا بي حد التلاشي. اذهب. أنا بجانبك، ومعك. أنتشي في هذه اللحظات حد الجنون بالبحر فيك. سافر. سافر. أمنحك كل ثقتي. 

حافظ على نفسك. فقد وضعت فيك كل أملي.

لك وحدك. 

ماريا. 


المراسلات. ص 126-129


ترجمة : واسيني الأعرج 

تعليقات