فصل من رواية "الوجه المظلم للحب" للكاتب الألماني السوري رفيق شامي

فصل من رواية "الوجه المظلم للحب" للكاتب الألماني السوري رفيق شامي

ترجمة خالد الجبيلي


فصل من رواية "الوجه المظلم للحب" للكاتب الألماني السوري رفيق شامي




-سلمى والقدّيس يوحنا

كانت سلمى، أمّ سليمان، تحبّ القدّيس يوحنا المعمدان من كلّ قلبها. ولم تكن الوحيدة في حبّها هذا لأن الدمشقيين مكرسون للقدّيس المقطوع الرأس. إذ تقول الأسطورة إنه بعد رقصة سالومي الشهيرة جُلب رأسه إلى دمشق من فلسطين، ويوجد ضريحه في الجامع الأموي، ويبجّله المسلمون كذلك.

كانت سلمى كثيراً ما تذهب إلى الكنيسة لإلقاء نظرة على اللوحة الزيتية للقدّيس يوحنا في الكنيسة الكاثوليكية وتشعل شمعة وتصلّي بورع شديد وتخبره عن كلّ مشاكلها وهمومها. وقد أقسمت لأمّ يوسف أن القدّيس يوحنا المعمدان قد حقق لها كلّ أمانيها إلا أمنية واحدة لم تتحقق بعد. ظلّت سلمى تعيد وتكرّر طلبها لكن من دون فائدة. وعلى الرغم من أنها أشعلت له عدداً  كبيراً من الشموع فإنه لم يحقق لها أمنيتها. في البداية، ذكّرت سلمى القدّيس بلطف، ثمّ بمزيد من الحدّة وكانت قد أشعلت حوالي سبعين شمعة لتحقيق هذه الأمنية بالذات، لكنه لم يكن يسمعها. وكان كاهن الكنيسة يضطر أحياناً لأن ينتظر طويلاً إلى أن تنهي حديثها مع القدّيس يوحنا. كان ينزعج منها كثيراً لأنه إذا كان متعباً أو جائعاً أو في عجلة من أمره، كان لا يستطيع مغادرة الكنيسة وإقفال بابها.

في أحد الأيام، خطرت له فكرة. فقد كانت اللوحة الضخمة معلّقة فوق منضدة رخامية ويوجد خلفها مكان فسيح. عندما غادر جميع المصلين صلاة القداس، راحت سلمى تتبادل بضع كلمات مع إحدى جاراتها، ورأى الكاهن الشاب أن فرصته قد حانت، فاختبأ وراء اللوحة وراح ينتظر من دون أن يأتي بحركة. بعد قليل اقتربت سلمى من اللوحة وراحت تشرح بلسان ذرب أنه خاب أملها لأن القدّيس يوحنا خذلها مع أنها أشعلت له ثماني وسبعين شمعة.

"هذه آخر شمعة لديّ"، قالت.

"لماذا أنتِ حزينة هكذا يا ابنتي؟ لم تصلني طلباتك بعد. ماذا تريدين بالتحديد؟"

خافت سلمى، لكنّها تمالكت نفسها وشرحت له أمنيتها باستفاضة، ووعدت بأنه إذا حقق لها القدّيس يوحنا هذه الأمنية، فإنها ستمنح الكنيسة مئة ليرة.

"لماذا للكنيسة؟ هناك ألف قدّيس وقدّيس هنا، وجميعهم يريدون شيئاً أيضاً".

"حسناً"، قالت سلمى، "إذاً المئة الليرة كلها ستكون لك".

"لكني لا أريد نقوداً"، أجاب الكاهن الواقف وراء لوحة القدّيس يوحنا، "ماذا يمكنك أن تقدمي أكثر؟" كان يبذل جهداً كبيراً حتى يتمالك نفسه عن الضحك بصوت مرتفع لأنه كان يستطيع أن يحدس كيف كان شكل المرأة في تلك اللحظة.

"ماذا تريد؟ شموعاً؟ يمكنني أن أشعل لك مئة شمعة"، قالت سلمى.

"أوه، كم أكره الشموع"، همهم الكاهن.

"هل تريدني أن أذبح خروفاً وأوزّعه على الفقراء؟"

"تلك الخراف المسكينة، لا يمكنني تحمّل رؤية الدم. ألا تعرفين أنني نباتي؟"

"صليب فضّي؟"

"إنك تخلطين بيني وبين المسيح".

"أ...أ..."،  لكن لم يخطر ببال سلمى أي شيء آخر، "رحلة لجميع الأطفال في ملجأ الأيتام الكاثوليكي، أو...".

"لا يمكنك أن تسددي تكاليف ذلك"، قال الكاهن مقاطعاً، ناطقاً باسم القدّيس.

"اترك ذلك لي. سأساوم وأحصل على سعر جيد، لأن مدير شركة الحافلات ابن عم زوجي البعيد، وهناك مطاعم رخيصة كثيرة يمكن للأرواح الصغيرة المسكينة أن تملأ بطونها فيها".

"وما الذي سأحصل عليه من كلّ هذا؟"

"حسناً، ماذا تريد إذن؟" سألت سلمى، وقد أصبحت أعصابها شديدة التوتر، "قل ماذا أفعل حتى تحقق لي أمنيتي".

"أريدك أن تنظفي الكنيسة بالفرشاة ثلاث مرات في الأسبوع لمدة ثلاثة أشهر".

"ماذا؟ أنظف الكنيسة بالفرشاة"، قالت سلمى بغضب، "يمكنني أن أستغني عن هذه الأمنية، شكراً جزيلاً، لكنّي سأقول لك شيئاً واحداً: لست متفاجئة لأنهم قطعوا رأسك أيها البخيل العجوز"، صاحت، وخرجت مسرعة من الكنيسة. ومنذ ذلك اليوم، بدأت تتحاشى الاقتراب من لوحة يوحنا المعمدان. 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-