القارئ الخائن | سعيد منتسب

 

القارئ الخائن | سعيد منتسب





القارئ الخائن | سعيد منتسب



قرأت بمتعة كبيرة، قبل سنوات، رواية "المترجم الخائن" لفواز حداد. وما أثارني في هذه الرواية هو ذلك الرابط المموه بين "النص الأصل" و"النص الترجمة"، وتلك المنافسة التي يسيطر عليها الاحتدام بين الزائف والحقيقي، بين اللص الذي يستمتع بالسرقة والتمويه والتشويه وقلب الحقائق الروائية، وبين النص المطمئن إلى أصله والمبتهج بأصالته. 

إن الترجمة تحضر في هذا النص كفعل لصوصي واضح ومفكر فيه بإمعان ما دام "الأصل" يتعرض ليس للبتر، بل لإفساد الوجود؛ فلا وجود حقيقي للأصل، ولا وجود لسلطة المؤلف، إذ لا يتحقق إعلان الوجود، في العمق، إلا للمترجم الخائن عن عمد لينتقم لوجوده المنكود. 

غير أن الوجه الآخر لهذا الانتقام- وهو الوجه الفرح وغير الأخلاقي طبعا- هو القراءة. فالمترجم لا يلبس قناعا مؤقتا لوجه ليس له (وجه المؤلف)، بل يتحول إلى قارئ منتج ومتفاعل وخبير، ويستطيع أن يقود الحكي من النواصي إلى حيث يريد هو، لا إلى حيث يفرض علينا المؤلف. بل إنه يستطيع أن يتفوق على الأصل باقتراح مسارات حكائية أخرى تنطلي بسهولة على القارئ العمومي (المستهلك). 

إن الجانب غير الأخلاقي في (الترجمة/القراءة السارقة) هو ما قد يؤدي إليه التعاطي معها من انزلاقات فكرية ومن تخييل يُنسب إلى غير صاحبه تعسفا، ومن صياغات وبنى تركيبية تضيع بين "اللغة الأصل" و"اللغات الطروس" عبر الانتقال إلى مجال آخر غير صالح وغير مسعف، وأحيانا متخلف وفارغ. 

إن هذا هو الضغط الذي تمارسه الترجمة علينا: تفوق النص الأصلي بلغته في بنياتها ودلالاتها. ذلك أن المترجم الأخلاقي يصاب دائما بالخيبة كلما انغلقت الكلمات عن ذاتها، ولاذت بسياقاتها. غير أن المترجم الخائن (وأفضل أنا القارئ) يتواطأ مع نفسه، ومع خياله، من أجل كتابة نص آخر يؤسس وجوده على نص أول (وهنا لنا أن نفكر في موريس بلانشو ولويس بورخيس ومارغريت يورسونار وجيرار جنيت الذين ذهبوا إلى أن الأصل هو أصل لأصل سابق، وهذا معناه أننا لا نكتب سوى الأرشيف بتعبير القاص أحمد بوزفور). فهذا القارئ، في تصوري، حتى وهو يتعمد ذلك ينتج نصا يتوافق مع فعل الترجمة، أي يحقق وجودا آخر للنص الأصل/ مختلف عنه. وهذا ما يجعل النص الأصلي وهما لا يمكن إدراكه، ما دام فعل الترجمة هو ملتقى لأصوات وثقافات متعددة تتلاقح في ما بينها على شاكلة فعل القراءة الذي يخترق كل شيء. 

إن الترجمة بطبيعتها "ضد الأصل"، وهي مع "المترجم الخائن"/ اللص/ الممتع، أي مع القارئ الذي لا يقف مكتوف القلم أمام "الأصول" المتمنعة والمستغلقة والكافرة، بل يتحدى كل الأنساق التي ترتاح إلى مفهوم الأصل وتحاول استنساخه حرفيا.

 لقد حلل عبد السلام بنعبد العالي مفهومي الأصل والترجمة، وذهب إلى أن البحث عن الأصل لا يؤسس بل يربك ويجزئ مانراه موحدا، وهذا الإرباك هو الذي تتعرض له النصوص عندما تُتَرجم. فالترجمة هي زحزحة الأصل عن موقعه، كما أنها تشكل تاريخ النص وتساهم في ابتعاد النص الأصلي عن ذاته. 

إن لـ "المترجم الخائن" وجودا أنطولوجيا مركبا يقع في صميم الأصل وهو يتحول إلى طروس إلى ما لانهاية.. وفي العمق إننا لا نترجم سوى الطروس، ولا تخون الترجمة إلا نفسها.. أما القراءة، فهي فعل حر تتقاطع فيه هويات وظلال مختلفة لتعكس وجودا خادعا لنص يقع، كيفما اتفق، تحت الضوء.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-