مقتطف من رواية "الدرب الضيّق إلى مجاهل الشمال" للكاتب الأسترالي ريتشارد فالاناغان

 

مقتطف من رواية "الدرب الضيّق إلى مجاهل الشمال" للكاتب الأسترالي ريتشارد فالاناغان


مقتطف من رواية "الدرب الضيّق إلى مجاهل الشمال" للكاتب الأسترالي ريتشارد فالاناغان


ترجمة : خالد الجبيلي



 أرخى الكولونيل كوتا قبضته وقال: باعد بين ساقيه، ورفع سيفه، وبصرخة قوية هوى به بقوة. بدأ الرأس يتدحرج بعيداً. كان الدم لا يزال يتدفق مثل نافورتين عندما كان علينا أن نحذو حذوه. كنت أتنفس بصعوبة. خشيت أن أقلل من قدر نفسي. خبأ بعض الأسرى رؤوسهم بين أيديهم، وأخطأ أحدهم ضربته فاندلقت نصف رئة منه. كان الرأس لا يزال في مكانه، وتعيّن على الملازم أن يحلّ هذه المشكلة. طوال الوقت كنت أراقب لأعرف ما هي الضربة الجيدة، وما هي الضربة السيئة، وأين يجب أن تقف بجانب الأسير، وكيف تبقي الأسير هادئاً لا يتحرك. عندما أتذكر ذلك الآن، أتذكر أنني كنت طوال الوقت أراقب، أتعلّم. لا قطع الرأس فقط.


عندما جاء دوري، لم أصدّق أنني فعلت ذلك ببرودة أعصاب شديدة لأنني كنت مرعوباً في داخلي. ومع ذلك، استللت السيف الذي كان أبي قد أعطاني إياه، ودون أن أرتعش، مبلِّلاً حدّ السيف كما أرانا المدرب دون أن أسقطه، وللحظة رحت أراقب، بينما تجمعت قطرات الماء ثم انسلّت ببطء. لن تصدّق كم ساعدتني مراقبة قطرات الماء.


وقفت وراء الأسير. استعدت توازني. تفحصت رقبته بإمعان. كانت نحيلة ومتغضنة، وتوجد أوساخ بين طياتها. لم أنس قط تلك الرقبة. وقبل أن أبدأ انتهى. تساءلت لماذا كانت هناك كريّات دهنية صغيرة على سيفي ولم أتمكن من إزالتها بالورقة التي أعطوني إياها. كان ذلك كلّ ما كنت أفكّر فيه – من أين أتى ذلك الدهن من تلك الرقبة الهزيلة الضامرة؟ كانت رقبته رمادية، وسخة مثل الوسخ الذي تبول عليه عادة. لكني ما إن قطعتها، حتى عادت الألوان تبدو زاهية جداً، متألقة – دمه الأحمر، عظمه الأبيض، لحمه الوردي، صفار ذلك الدهن. الحياة! كانت تلك الألوان هي الحياة نفسها.

فكّرت كم كان الأمر سهلاً، كم كانت الألوان براقة وجميلة، وما أذهلني هو أنها انتهت بسرعة. وعندما تقدّم الطالب الضابط التالي ليقطع رأس أسير آخر، رأيت الدم لا يزال يتدفق من رقبة أسيري في نافورتين، تماماً مثل ضحيّة الملازم، لكن أقل بقليل فقط. لا بد أنني لاحظت ذلك بعد أن قتلته بقليل.


لم أعد أشعر بأيّ شيء إزاء ذلك الرجل. ولكي أكون صادقاً، فقد احتقرته لأنه قبل مصيره بخنوع وتساءلت لماذا لم يقاوم. لكن ماذا ستجدي مقاومته؟ وعلى الرغم من ذلك، فقد شعرت بالحنق منه لأنه تركني أذبحه.

لاحظ ناكامرا كيف أن يد كوتا التي يمسك بها السيف وهو يحكي قصّته تنقبض وترتخي، كأنه يتدرب أو يقطع رأساً.

إن ما اعتراني من أحاسيس يا ميجور ناكامرا، تابع الكولونيل كلامه، كان شيئاً هائلاً في معدتي كأنني أصبحت رجلاً آخر، كأنني اكتسبت شيئاً، هذا ما شعرت به. كان شعوراً هائلاً وفظيعاً، كما لو أنني متّ أيضاً وولدت من جديد.


قبل ذلك اعتراني القلق حول كيف سينظر إليّ رجالي عندما أقف أمامهم. لكني بعد ذلك، كنت أنا من ينظر إليهم. كان هذا يكفي. لم أعد أبالي ولا أخاف. كنت أحدّق فيهم - في مخاوفهم، ذنوبهم، أكاذيبهم - رأيت كلّ شيء، عرفت كلّ شيء. عيناك شريّرتان، قالت لي امرأة في إحدى الليالي. كان يكفي أن أنظر إلى الناس لأزرع الخوف في نفوسهم. لكن بعد فترة، بدأ هذا الإحساس يموت. بدأت أشعر بالاضطراب. بالضياع. عاد الرجال يتكلمون عني بوقاحة من وراء ظهري. لكني كنت أعرف ذلك. لم يعد أحد يخشاني. مثل فيلوبون – ما إن تحوزها، حتى لو جعلك ذلك تشعر بالدناءة- فإنك تريدها مرة أخرى.

هل يمكنني أن أقول لك شيئاً؟ كان هناك دائماً أسرى. وإذا مرت بضعة أسابيع ولم أقطع فيها رأساً، كنت أذهب وأبحث عن رقبة شخص في هذا العالم تعجبني. كنت أجعله يحفر قبره. بينما كان يستمع إلى قصّة الكولونيل الفظيعة، كان ناكامرا يرى أنه حتى بمثل هذه الأفعال الفظيعة أيضاً، لم تكن هناك طريقة أخرى يمكن فيها تلبية رغبات الإمبراطور.


الأعناق، تابع الكولونيل كوتا قائلاً وهو ينظر بعيداً إلى المكان الذي تجمعت فيه مياه المطر الذي لم يتوقف عن الهطول طوال الليل. أصبح هذا كلّ ما أراه في الناس الآن. أعناقهم. ليس من الجيد التفكير بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ لا أعرف. هكذا أصبحت الآن. كلما التقيت بشخص جديد، أنظر إلى رقبته وأتفحصها بدقة – هل إن قطعها سهل أم صعب. وهذا كلّ ما أصبحت أريده من الناس، أعناقهم التي تُقطع، هذه الحياة، تلك الألوان: الأحمر، الأبيض، الأصفر.

كما ترى فإن أول ما رأيته فيك هو رقبتك، قال الكولونيل كوتا. إنها رقبة جيّدة – أستطيع أن أرى بدقة أين يجب أن يهوي السيف. إنها رقبة ممتازة. سيطير رأسك متراً. كما ينبغي أن يحدث. وقد تكون الرقبة رفيعة جداً أو غليظة جداً، أو أنهم يتلوون أو يصرخون من الرعب - يمكنك أن تتخيّل ذلك - وإذا لم تقطع الرأس جيداً، فإنك تضطر لقطعها حتى الموت بغضب شديد. وعلى الرغم من أن رقبة الرقيب لديك تشبه رقبة ثور، طريقة وقفته، كما ترى. يجب أن أركّز على ضربتي وعلى البقعة التي يجب أن أضربه فيها حتى يموت بسرعة.


بينما كان الكولونيل كوتا يتحدث، ظل يقبض ويرخي قبضة يده، يرفعها وينزلها عندما تنقبض، كأنه يعدّ سيفه لقطع رأس آخر.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-