مقتطف من رواية "صبوات - Sexus" - هنري ميللر



مقتطف من رواية "صبوات - Sexus" - هنري ميللر



مقتطف من رواية "صبوات - Sexus" - هنري ميللر

ترجمة : خالد الجبيلي 

 

 عندما تغرق السفينة تبدأ بالغوص ببطء، وتأخذ الأشرعة والصواري وحبال السفينة تطفو بعيداً. وفي قعر محيط الموت تتزين القشرة النازفة بالجواهر، وتبدأ الحياة التشريحية بقسوة وبدون شفقة. إن الشيء الذي كان سفينة يصبح شيئاً لا يفنى لا اسم له. 

 

وعلى غرار السفن، يخفق الرجال مرة بعد أخرى. الذاكرة فقط هي التي تنقذهم من التشتت التام. يضع الشعراء غرزاتهم في النول، يرمون قشاتهم للغرقى ليتمسكوا بها وهم يغوصون في لجة الانقراض. الأشباح تعود وتصعد الدرجات المائية، وتعلوا في الخيال، قطرات مصابة بالدوار، تحفظ عن ظهر قلب الأرقام، والتواريخ، والأحداث، وهي تعبر من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة وتعود ثانية. ليس هناك دماغ قادر على تسجيل التغيرات المتغيرة.

 

لا شيء يحدث في الدماغ، إلا الصدأ والتآكل التدريجي للخلايا. أما في العقل، فإن عوالم غير معروفة، لا اسم لها، غير مستوعبة، تتشكل، تتفسخ، تتحد، تذوب وتتواءم باستمرار. في عالم العقل، الأفكار هي العناصر الراسخة التي تشكل كواكب الحياة الداخلية. نتحرك داخل مداراتها، بحرية إذا تبعنا أنماطها المعقدة، سواء كنا مستعبدين أو مملوكين إذا حاولنا إخضاعها. كل شيء خارجي ماعدا الانعكاس المسلط من آلة العقل.

 

الخلق هو المسرحية السرمدية التي تحدث عند خط الحدود، إنها تلقائية وإلزامية، وتطيع القانون. يبتعد المرء عن المرآة وترتفع الستارة. حفلة دائمة، لا يُستبعد منها إلاّ المجانين، فقط الذين "فقدوا عقولهم" كما نقول، لأن هؤلاء لا يتوقفون عن الحلم بأنهم يحلمون. لقد وقفوا أمام المرآة وعيونهم مفتوحة وغطّوا في سبات عميق، ختموا ظلهم في مقبرة الذكرى. فيهم النجوم تنهار لتشكّل ما أطلق عليه هوغو "حديقة حيوانات نادرة من شموس تعمي البصر تجعل نفسها من خلال الحب، كلاب البودل الصغيرة وكلاب النيوفنلندي الضخمة". 

 

الحياة المبدعة! الصعود. أن يتجاوز المرء نفسه. تنطلق كالصاروخ في السماء، تتمسك بسلالم الطائرة، تصعد، تحلّق، ترفع العالم إلى الأعلى من فروة الرأس، توقظ الملائكة من عرائنها الأثيرية، تغرق في الأعماق السحيقة، تتعلق بذيول المذنبات. وكان نيتشه قد كتب عنها بنشوة – وبعدها أُغمي عليه أمام المرآة ليموت في الجذر والزهرة. فقد كتب "الدرجات والدرجات المعاكسة" وفجأة لم يعد هناك أي قاع. العقل، كماسة مشقوقة، سُحقت بضربات مطرقة الحقيقة.

مر وقت تصرفت فيه كمسؤول عن أبي. كنت أُترك وحيداً لساعات طوال، محصوراً في الكشك الصغير الذي كنا نستخدمه كمكتب. وبينما كان يشرب مع أصدقائه كنت أتغذّى من زجاجة الحياة الخلاقة. رفاقي كانوا الأرواح الحرة، السادة الكبار من الروح. الشاب الصغير الجالس هناك في الضوء الأصفر الباهت أصبح معتوهاً تماماً، عاش بين طيات الأفكار العظيمة، قعا كناسك في القفار القاحلة في سلسلة جبلية شاهقة. ومن الحقيقة عبر إلى الخيال ومن الخيال إلى الإبداع والخلق. في هذه البوابة الأخيرة، التي لا عودة منها، داهمه الخوف. أن تخاطر أكثر يعني أن تجول وحيداً، أن تعتمد على نفسك تماماً.

 

إن الغرض من النظام هو المزيد من الحرية، لكن الحرية تُفضي إلى اللانهاية، واللانهاية تُدخل الفزع في النفوس. ثم برزت الفكرة المريحة الهنيئة بالتوقف عند الحافة، بكتابة ألغاز الدافع، الإلزام، الدفع، بإغراق الأحاسيس في الروائح الإنسانية. كي تصبح إنسانا تماماً، يتجسّد الشرير العطوف، صانع أقفال الباب الكبير المؤدي بعيداً ويعزل إلى الأبد...

الرجال يغرقون كالسفن، والأطفال أيضاً. هناك أطفال يستقرون في القاع ولما يبلغوا التاسعة من عمرهم، يحملون معهم سر الغدر بهم. هناك وحوش غدارة تنظر إليك بعيون شاب بريئة مملة، جرائمهم غير مسجلة لأنه لا توجد لهم أسماء.






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-