شجون تربوية (١) | محمد البوعيادي

 

شجون تربوية (١) | محمد البوعيادي


شجون تربوية (١)


 • محمد البوعيادي


من الأقوال البالية التي تثير سخرية الرأي العام من المدرسين: "كاد المعلم أن يكون رسولا!"، لا يوجد ما هو أسخف من هذا التشبيه إذا فكرنا فيه من عدة نواح.

- من الناحية التربوية، وظيفة المدرس ليست نقل وحي يوحى، ولا ترسيخ مبادئ ميتا-إنسانية غير قابلة للتطور والتحوير، فالتربية بالمفهوم الوظيفي، هي إقدار الطفل على اكتساب مهارات وكفاءات عملية وفكرية وسيكولوجية، وليس تلقين معطى ناجز غير قابل للنقد والتفكيك، فإكساب مهارات النقد وبناء الرأي والموقف وتحليل المعطيات والعمل التقني والثبات الانفعالي مثلا ليست من وظائف الرسول ولا هي جزء من رسالته الروحية والسياسية، لكنها جزء أساسي من عمل المدرس. إذ يمكن تلخيص عمل المدرسين في تخصصات العلوم الإنسانية واللغات أساسا في التربية على النقد، باعتبارها الكفاية الأشد أهمية وصعوبة، في حين يكمن عمل الرسول في ترسيخ الإيمان، ومن هنا علمانية خطاب المدرسة وثيولوجية خطاب المسجد. وأي فهم لا يميز بين الخطابين فهو يلبس المدرسة لبوس المسجد و"المسيد" ويؤجل فعالية المؤسسة التربوية الحديثة (فكريا وتربويا) لأجل غير مسمى!

- من الناحية الاجتماعية، المدرس مواطن عادي، وعمله من الواجب أن ينظر إليه نظرة عادية بالمعنى السوسيولوجي، يقوم بمهنة تقنية ودور اجتماعي مثله مثل أي فاعل اجتماعي آخر، بما فيه رجل السلطة والمهني والتقني والطبيب والسياسي و"الصحفي" إلخ. فمخرجات عمله (التكوين المعرفي والسلوكي الأولي للطفل) لا تختلف في شيء عن مخرجات عمل الفلاح مثلا = توفير الأمن الغذائي. أو مخرجات عون السلطة = توفير المعلومة ومراقبة الأنشطة داخل الدوائر الترابية.
ومن هذا "الدور الاجتماعي" فقط يجب أن يكتسب وجوده الاجتماعي دلالته، لا من أي إسقاط أخلاقوي ديني مترسب عن فترات سابقة في تاريخ التنظيم الاجتماعي، حيث كان المدرس فقيها ورمزا أخلاقويا.
والصورة الاجتماعية للمدرس يجب أن يطبع معها باعتبارها صورة لمواطن لا "يميزه" شيء عن غيره من المواطنين سوى ما يساهم به في استمرار حالة الاجتماع وتطوير النشاط البشري داخل حيز الدولة (بالمعنى العام). يستتبع ذلك التعامل مع مواقف المدرس وأفعاله وأقواله باعتبارها ناتجة عن فاعل يتمتع بحقوق دستورية ويقوم بواجبات مهنية، فمن الطبيعي أن يطالب بتحسين شروط عمله، ومن الطببعي أن توجه إليه الانتقادات في عمله، سواء من الجهات المعنية، أو من الرأي العام.

لهذين السببين يبدو إسقاط الرسالية وكل المعاني الدينية والأخلاقوية عطبا في فهم دور المدرس داخل المجتمع، فبسبب هذا الفهم يحمل المدرس نفسه تبعات الفهم المغلوط لوظيفته، وسرعان ما يصير ضحية التوقعات المثالية وغير الواقعية من البيئة المحيطة به، إذ يتوقع منه أن يلتزم نمطا سلوكيا صوفيا زهديا، فلا يمارس أي نشاط بشري عادي ولا يطالب بأي حق مادي، كما يتوقع منه ألا يخطئ، وهذه أم الزلات. وبداية تشوه صورته في الوعي الجمعي.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-