قصّة قصيرة : حفلة شاي - هارولد بنتر
هارولد بنتر
(كاتب مسرحي وكاتب سيناريو ومخرج وممثل بريطاني. حائز على جائزة نوبل (1930-2008)
ترجمة : خالد الجبيلي
(كتبتُ هذه القصة القصيرة في عام 1963. وفي عام 1964، طلبت مني هيئة الإذاعة البريطانية كتابة مسرحية لهيئة الإذاعة الأوروبية. فقررت أن أتناول موضوع القصة لكن في شكل مسرحية. ورأيت أن القصة كانت أفضل من المسرحية وأكثر نجاحاً منها).
ازداد بصري سوءاً.
يبلغ طول طبيبي حوالي ستة أقدام. يخطّ شعره خط رمادي، خط واحد، لا أكثر، وتقبع على خدّه الأيسر شامة بنيّة اللون. كان غطاء المصباحين الأسطوانيين أزرق داكناً، يحّف كلّ منهما خط ذهبي، يشبه أحدهما الآخر. يوجد ثقب أسود عميق في سجادته الهندية لا بد أنه ناجم عن حرق. تضع المرأة التي تساعده نظارات. تناهت إليّ من وراء ستارة النافذة أصوات طيور في حديقته. وكانت زوجته تظهر، بين الحين والآخر، في ثوب أبيض.
بدا أنه لم يكن متأكداً من حالة عينيَّ. برأيه أن عينيَّ في حالة طبيعية، لا بل ربما أفضل من العيون الطبيعية نفسها. وقال إنه لم يجد أي شيء يشير إلى أن رؤيتي تزداد سوءاً.
لقد ازداد نظري سوءاً. لا أقول إنني لا أبصر. لا، فأنا أرى.
أعمالي تسير على ما يرام. لا أزال أنا وأفراد أسرتي أصدقاء مقربين. ابناي هما أعزّ صديقين لي. علاقتي بزوجتي متينة ووثيقة جداً. علاقتي مع جميع أفراد عائلتي، بمن فيهم أمّي وأبي، رائعة. في أحيان كثيرة، نجلس كلّنا ونستمع إلى باخ. وعندما أسافر إلى اسكوتلندا يرافقونني. في إحدى المرات، ذهب معنا شقيق زوجتي، وكان مفيداً جداً في الرحلة.
عندي هوايات متعددة، منها استعمال المطرقة والمسامير، أو البراغي ومفكّ البراغي، وأحبّ أن أستخدم مناشير مختلفة أصنع بواسطتها أشياء متعددة من الخشب، أو أصنع أشياء مفيدة، وأجد فائدة من أشياء كانت تبدو عديمة القيمة. لكن ليس من السهل أن تفعل ذلك، وأنت مصاب بازدواجية في الرؤية، أو عندما لا ترى الشيء، أو عندما لا ترى شيئاً على الإطلاق، أو عندما يعميك ذلك الشيء.
زوجتي سعيدة. غالباً ما أستخدم خيالي في السرير. نمارس الحبّ والنور مضاء. أحدّق فيها، وهي تحدّق فيّ أيضاً. في الصباح، تبرق عيناها. يمكنني أن أراهما متلألئتين من وراء نظارتها.
كانت السماء صافية طوال فصل الشتاء. لم تتوقف الأمطار عن الهطول طوال الليل. وفي الصباح، كانت السماء تزداد صفاء وإشراقاً. الضربة بقفا يدي أقوى سلاح لديّ. أتخذ مكاني أمام شقيق زوجتي على الطرف الآخر من الطاولة العزيزة، أمسك المضرب بيدي، رسغي منثنٍ، أنتظر اللحظة المناسبة كي أوّجه ضربتي، أراقبه (مصدوماً) وهو يثب ويُهزم، ثمّ يتقدّم متعثراً، مقطباً جبينه. ضربتي وراحة يدي مقلوبة بالاتجاه الآخر ليست قوية بما يكفي، لكنها سريعة جداً. وكما أتوّقع، فإنه يسدّد لي ضربة وراحة يدي مقلوبة في الاتجاه الآخر. كنّا نسمع صوت رنين في الغرفة، صوت مطاطي مكتوم يرتطم على الجدار. وكما كنت أتوّقع، فقد وجّه لي ضربة وراحة يدي مثنية في الاتجاه الآخر. عندما أضرب الكرة ويدي مقلوبة في الاتجاه الآخر، يترنّح. أراقبه وهو يتخبّط، يسقط بقوة، ويُهزم. كانت لعبة متكافئة. لكن لم يعد من السهل الآن أن أفعل ذلك، لأنني بدأت أرى الكرة مزدوجة، أو لأنني لم أعد أراها على الإطلاق، أو لأنها كانت، عندما تندفع نحوي بسرعة، تعميني.
إنني مسرور جداً من سكرتيرتي، فهي تجيد عملها وتحبّه. إنها جديرة بالثقة. تنوب عني في إجراء اتصالات هاتفيه إلى نيوكاسل وبرمنغهام. تبدو في غاية الاحترام عندما تتكلّم على الهاتف. صوتها مقنع. أتفق أنا وشريكي بأنها سكرتيرة لا تقدّر بثمن. وفي أحيان كثيرة، يتحدّث شريكي وزوجتي عنها عندما نلتقي ثلاثتنا لتناول القهوة أو بعض المشروبات الأخرى. لكن عندما يتحدّثان عن ويندي، لا يمتدحها أحد منهما.
في الأيام المشرقة التي بدأنا نراها كثيراً هذه الأيام، أُسدل الستائر في مكتبي لأملي عليها رسائلي. في أحيان كثيرة، ألمس جسدها الممتلئ. تعيد قراءة ما أمليته عليها، تقلب الصفحة، تجري مكالمة هاتفية إلى برمنغهام. وحتى لو لمست جسدها الممتلئ وهي تتكلّم (تمسك بسماعة الهاتف بإحدى يديها برفق، وتكون مستعدة لتدوّن ملاحظات بيدها الأخرى) فإنها تواصل حديثها على الهاتف حتى النهاية. عندما كانت تضع ضمادة على عينيّ، أتحسس جسدها. المكتنز.
لا أذكر أنني كنت أشبه ولديّ عندما كنت صبياً. فهما متحفظان جداً. عندما يُستثاران لا تظهر عليهما أيّ انفعال أو عاطفة. يجلسان صامتين، يتهامسان فيما بينهما ويقولان كلاماً غريباً. أقول لهما لا أستطيع أن أسمعكما، ماذا تقولان، ارفعا صوتيكما. زوجتي تقول لهما نفس الشيء. لا أستطيع أن أسمعكما، ماذا تقولان، ارفعا صوتيكما. لقد بلغا سن الرشد. يبدو أن أداءهما في المدرسة جيد، لكنهما فاشلان تماماً في لعبة كرة الطاولة. عندما كنت صبياً، كنت يقظاً، وكانت تعتريني اهتمامات شهوانية. كنت طلق اللسان، سريع الاستجابة، حادّ النظر. إنهما لا يشبهاني في أي شيء. تبدو عينا كلّ منهما لامعتين ومراوغتين من وراء نظارتيهما.
كان شقيق زوجتي إشبيني في زفافنا. لم يكن أحد من أصدقائي موجوداً في البلد آنذاك. فقد ذهب أعزّ أصدقائي الذي كان يفترض أن يكون إشبيني، في مهمة عمل مفاجأة. فذهب آسفاً. كان قد أعدّ كلمة رائعة تكريماً للعريس، ليلقيها في الحفل. بالطبع، لم يكن باستطاعة شقيق زوجتي أن يلقي الكلمة لأنها تتحدّث عن الصداقة الطويلة التي تجمعنا أنا وأتكينس، فضلاً عن أن شقيق زوجتي لا يعرف أشياء كثيرة عني. كانت مشكلة حقيقية بالنسبة له، لكنه وجد حلاً لها لأن أخته زودته بمعلومات عني. لا أزال احتفظ بالهدية التي قدّمها لي، وهي مبراة أقلام رصاص من بالي.
عندما أجريت فحص مقابلة لويندي، كانت ترتدي تنورة ضيّقة من قماش التويد. فخذها اليسرى لم تتوقف عن ملامسة فخذها اليمنى، ولم تتوقف فخذها اليمنى عن مداعبة فخذها اليسرى. كان كلّ ذلك يحدث تحت تنورتها. بدا لي أنها سكرتيرة مثالية. كانت تستمع إلى النصائح التي أقدّمها لها باهتمام شديد، وكانت عيناها مفتوحتين على وسعيهما، وكانت تشبك يديها بهدوء. كانت يداها أنيقتين، بارزتين، مكتنزتين، ورديتين، منتفشتين. كان من الواضح أنها تتمتع بعقل نشط وذكاء وقاد. في ذلك الحين، نظّفت نظاراتها بمنديل حريري ثلاث مرات.
بعد انتهاء حفل الزفاف، طلب شقيق زوجتي من زوجتي العزيزة أن تخلع نظارتها. حدّق في أعماق عينيها، وقال لها: لقد تزوّجتِ رجلاً طيباً. ستعيشين سعيدة معه. وبما أنه لم يكن يعمل في ذلك الحين، دعوته لأن يعمل معي في شركتي، وسرعان ما أصبح شريكي. كان يتمتع بحماسة شديدة، وبذكاء حاد.
إن ذكاء ويندي وسداد رأيها، ووضوحها، وقدرتها على حفظ السرّ، أشياء لا تقدّر بثمن بالنسبة لشركتنا.
أضع عيني في ثقب المفتاح وأسمع صوت صريرهما. الشقّ أسود، فحيحهما وتقلبهما في النعيم. تقبع الغرفة فوق رأسي، جمجمتي تتغضّن فوق المقبض النحاسي الكريه الذي لا أجرؤ على أن أديره لكي لا أسمع صرخة سوداء تنطلق من فم سكرتيرتي وهي تتقلّب بعماء فوق بطن شريكي وغابته.
انحنت زوجتي فوقي. سألتني هل تحبّني؟ أحبّك، بصقتُ في مقلة عينها. سأثبت لك ذلك، سأثبت لك ذلك، هل هناك إثبات آخر، هل بقي هناك أي إثبات، هل بقي هناك دليل لم أقدّمه لك بعد. لقد قدّمت كلّ الاثباتات (من جهتي، قررت أن أستخدم خدعة مراوغة وأكثر مكراً) هل تحبينني، كان ردي لها.
طاولة كرة الطاولة ملوثة بالطين. يداي تلهثان حتى أصد الكرة. يتفرّج ابناي. يهتفان تشجيعاً لي. كان صوتهما عالياً ليعبّرا عن حبهما وإخلاصهما لي. تملكّتني الحماسة. بدأت أضرب ضربات متلاحقة، أناور، أخادع إلى أقصى درجة. ألعب الكرة بأنفي. كانا يهتفان بحماسة يشجعان الجهود التي أبذلها، لكن شقيق زوجتي لم يكن مغفلاً. كان يردّ الضربة، يضرب ثانية، فأنزلق، أتعثّر، أحدّق من دون أن أرى شقّ مضربه.
أين مطارقي، براغيّ، مناشيري؟ كيف حالك؟ سألني شريكي. هل الضماد في مكانه الصحيح؟ وهل العقد مربوطة بإحكام؟ صفق الباب. أين كنت؟ في المكتب أم في البيت؟ هل دخل أحدهم عندما خرج شريكي؟ هل خرج؟ هل كان الصمت هو الذي سمعته، هذا العراك، الصرير، الصراخ، الأنين؟ أحدهم يصبّ الشاي. فخذان ثقيلتان (ويندي؟ زوجتي؟ كلتاهما؟ منفصلتان؟ معاً؟) رشفتُ السائل. حيّاني طبيبي بحرارة. بعد دقيقة، سنزيل تلك الضمادات أيها الرجل العجوز. هيا تناول فطيرة. اعتذرت. الطيور في حمّام الطيور، دعا زوجته ذات البشرة البيضاء. هرعوا كلّهم لينظروا. رمى ابناي شيئاً. أحدهما؟ بالتأكيد لا. لم أسمع ولداي من قبل وهما في هذه الحالة من البهجة. يدردشان، يضحكان، يناقشان عملهما بحماسة مع خالهما. كان أبي وأمّي صامتين. بدت الغرفة صغيرة جداً، أصغر مما أذكر. كنت أعرف مكان كلّ شيء فيها، كلّ صغيرة وكبيرة فيها. لكن رائحتها تغيّرت. ربما لأن الغرفة كانت مليئة بأشياء كثيرة. انفجرت زوجتي في نوبة ضحك، كما كانت تفعل في أيام زواجنا الأولى. لماذا ضحكت؟ هل حكى لها أحدهم نكتة؟ من؟ ولداها؟ هذا غير محتمل. كان ابناي يتحدّثان مع طبيبي وزوجته عن عملهما. سأكون معك بعد دقيقة أيها العجوز، قال لي طبيبي. في هذه الأثناء، كانت مع شريكي المرأتان شبه العاريتين فوق سرير مريح. أي الجسدين أكثر امتلاء؟ نسيت. التقطتُ كرة الطاولة. كانت صلبة. أتساءل أي جزء من المرأتين عراّه. النصف العلوي أم النصف السفلي؟ أم لعله يرفع نظارته الآن لينظر إلى ردفيْ زوجتي الممتلئين، وإلى ثديي سكرتيرتي العارمين. كيف يمكنني أن أعرف ذلك؟ بالحركة، باللمس. لكن هذا شيء بعيد الاحتمال، وهل يمكن أن يحدث ذلك أمام أعين ابنيّ؟ هل سيواصلان الحديث والضحك، كما كانا يفعلان مع طبيبي؟ هذا أمر بعيد الاحتمال. في جميع الأحوال، من الجيد أن الضمادة لا تزال في مكانها والعقد مربوطة بإحكام.