من رسائل هنري ميللر إلى أناييس نين
ديجون، 29 كانون الثاني، 1932
عزيزتي أناييس نين:
تبدو لي Lycée Carnot، كما تُدعى هذه المدرسة، أشبه بإصلاحية. وأظنّ أن وصفها "بنظام التقشّف"، كما قال الدكتور كرانز، لا يفي حقها تماماً. ربما يساهم الطقس أيضاً في جعل الصورة كئيبة. من المؤكد، باستثناء لندن (التي كان طقسها أكثر اعتدالًا من الطقس هنا حتى في شهر شباط/فبراير)، فإني لم أر شيئاً كهذا طوال حياتي. فقد بدا أن ستاراً كثيفاً من الضباب الجليدي يغلّف المدينة، والأشجار بيضاء من الصقيع، وأن كلّ شيء فيها يبدو في حالة يرثى لها. لا، بالتأكيد، أن ديجون هذه تختلف تماماً عن ديجون التي عرفتها في الصيف.
لقد استُقبلت بحفاوة، وعاملني الجميع بلطف شديد، لكن - المباني كأنها ثلاجات، مرعبة، متهالكة، متعفنة، وما إلى ذلك. أجد نفسي محاطًا بإثني عشر شخصاً، يطلقون عليهم اسم مراقبين، كلّهم شياطين مساكين يكافحون من أجل الحصول على شهادات، يتظاهرون بالشجاعة وبأنهم يتحملون كل ذلك، على الرغم من الطعام الرديء، والبرد الشديد، وقماءة الحياة هنا.
بصراحة، أول شيء خطر ببالي هذا الصباح هو أن أهرب وأنجو بجلدي. غرفة يغلّفها الصقيع، لا توجد فيها مياه جارية، في مهجع في الطابق العلوي يمنحك إحساساً لطيفاً بأنك تدخلين إلى مشرحة. اسمعي، لا أريد أن أستفيض في الحديث عنها. فأنا أكتب هذه الرسالة إليك بشكل شخصي. بعد أسبوع أو زهاء ذلك، قد لا ألاحظ هذه الأشياء المزعجة. لكن الساعات القليلة الأولى- كانت بمثابة رعب حقيقي. إن هذا المكان لا يصلح لأن يعيش فيه رجل أبيض. هذا بيني وبينك (entre nous).
وللإضافة إلى هذه الصورة البهيجة، دعيني أقول لك إنني أُبلغت هذا الصباح بأنهم لا يدفعون مرتباً لهذه الوظيفة - طعام وغرفة فقط - هكذا. أقسم أنني لو كنت أعرف أن شيئاً من هذا القبيل سيحدث (على الرغم من عبارة "تقشّف") لبقيت في باريس مهما كانت الظروف. في جميع الأحوال، أشعر بأنني يجب أن أمنح نفسي فرصة أخرى. (فالتدريس هنا ليس صعباً على الإطلاق، وأدرّس 9 ساعات فقط في الأسبوع).
لم أكتب للدكتور كرانس بعد الذي قال لي بصراحة، كما أتذكّر، "لا تدع الانطباعات الأولى تؤثّر عليك"، لكنني لو كنت حراً من الناحية الأدبية، لعدت أدراجي على الفور. في جميع الأحوال، إذا رأيته في فترة قريبة مرة أخرى، أرجو أن تخبريه فقط بأنني أصبت بخيبة أمل لأنهم لن يدفعوا لي مرتّباً هنا، مع أنه أكدّ لي مع السيد دسكلوس (من المكتب الوطني) بأنهم سيدفعون لي مرتّباً. بالنسبة للأمور الأخرى، فإني سأتوقّف عن القيام بها في الوقت الحالي. قد أتمكن من التأقلم مع الوضع هنا، واتمنى ذلك لأنني كنت على استعداد تام لقبول أي شيء. كما أنني لا أريد أن أبدو ناكراً للجميل أو ضعيفاً أيضاً. علماً أن المدرّسين السابقين، أحدهما أمريكي والآخر إنكليزي، لم يتمكنا من مواصلة الحياة هنا أيضاً. وقيل لي إن الأستاذ الإنكليزي هرب في اليوم الثاني تحت جنح الليل من دون أن يقول لأحد كلمة واحدة.
لا أحب أن أكتب لك عن هذا، لكنني أشعر بأنني أستطيع أن أتحدّث إليك بحرية. بالطبع، سأبقى هنا طالما استطعت. في الواقع، لا يوجد أمامي سبيل آخر. فقد أحرقت الآن كلّ الجسور خلفي. بالطبع، أطلب منك ألاّ تثيري ضجة حول ما ذكرته لك. فهو، كما يخيّل إليّ، وضع فرنسي نموذجي، ولا يمكن عمل شيء حيال ذلك. ومهما قلنا، أنا وأنتِ، فإنهم سيعتبروننا أمريكيين فقدا صوابهما، أفسدتنا وسائل راحة جسدية كثيرة. وعندما أتذكّر الآن فندق Hotel Princesses الذي وجدت زوجتي جون أنه تصعب الإقامة فيه، فإنه يبدو لي جميلاً الآن.
سأعطيك صورة واحدة فقط - عن "غرفة الطعام". هنا حيث نتناول، أنا والمراقبون، طعامنا. فهي تشبه عيادة يهودية رخيصة، طاولاتها ذات الأسطح الرخامية باردة كالثلج. يجلبون الطعام كلّه دفعة واحدة - الحساء واللحم والخضروات والحلوى. ففي الصباح، يجلبون لك طاسة من القهوة الضعيفة، محلاّة بالسكر ومخففّة بالحليب كثيراً. أما الباقي – خبز بدون زبدة أو مربى أو أي شيء. يحدث ذلك في الساعة 7:30 صباحاً. وعند الظهيرة تكادين تموتين جوعاً، بالإضافة إلى البرد وما إلى ذلك. وهم يقدّمون الوجبة التالية في الساعة السابعة مساء. لا توجد فيها قهوة أو وجبات طعام كبيرة. وللتعويض عن ذلك، ولمواجهة هذا الأمر، فإن الرجال الآخرون يغنون ويتصارعون ويتجادلون في أمور السياسة. يا إلهي، كم أشفق عليهم. إنهم يتمتعون بروح رياضية عالية. وفي مكان قريب، يوجد المستوصف الذي يُعالج فيه التلاميذ عندما يُصابون بالأمراض. المهجع الذي ينامون فيه بارد جداً. وبئر الدرج يذكّرك بإحدى قصص إدغار آلان بو - أو إحدى مسرحيات غراند غينيول التراجيدية.
لكن يا إلهي - أوووف من كلّ هذا. آمل أن أتمكن من كتابة شيء أكثر بهجة في المرة القادمة.
المخلص،
هنري