مقتطف من رواية "قصة حبّ إيرانية تحت مقصّ الرقيب" | شهريار مندني بور

 

مقتطف من رواية "قصة حبّ إيرانية تحت مقصّ الرقيب" | شهريار مندني بور


مقتطف من رواية "قصة حبّ إيرانية تحت مقصّ الرقيب" | شهريار مندني بور

ترجمة : خالد الجبيلي


أفضّل أن أكون عصفوراً على أن أكون أفعى


يبدأ المشهد التالي من قصّتنا في إحدى دور السينما. بعد الدردرشة ورسائل البريد الإلكتروني على الكمبيوتر بعد الساعة العاشرة ليلاً، خطّطت سارا ودارا أن يلتقيا في السينما. كان قد رأى أحدهما الآخر لمدة عشر دقائق فقط في القاعة المُنارة، وهما يجلسان الآن في الظلام.

لم تكن في الفيلم الذي اختار دارا وسارا مشاهدته، صور عن سكان المدن في الحياة الإيرانية الحديثة. بل، شأن الكثير من الأفلام الإيرانية المتطفلة على الفن التي تتلقى جوائز ذهبية في مهرجانات سينمائية محترمة في العالم، يصوّر الفيلم حياة البؤس والفقر واليأس في إيران. وفي الدقيقة الرابعة والأربعين من الفيلم، أخيراً، وللمرة الأولى، استندت ذراع دارا اليمنى، وذراع سارا اليسرى، على المسند المشترك بينهما. وما هي إلا دقائق، حتى بدأت ذراع المقعد تهتز.

اسألوني هل هذه هي نقطة الذروة في قصّتي، لكي أقول:

لا... ماذا يخطر ببالكم؟

لا علاقة لاهتزاز ذراع المقعد بالتصرفات التي يمكن أن تحدث في قاعات دور السينما المعتمة في الغرب. فقد بدأت ذراع سارا وذراع دارا ترتعشان بسبب قوة غامضة، من نوع تداعي الأفكار. إنها القوة ذاتها التي دفعت رجال كهوف لاسكو في فرنسا إلى حفر رسوم سحرية على جدران الكهوف، وربما كانت القوة نفسها التي يمكن أن تشعل فتيل انتحاري في بغداد...

الآن بدأتم تعرفون أنكم لستم إزاء قصّة حبّ عادية. لذلك لا تسألوني ودعوني أخبركم:

 كان أحد أكثر المشاهد الجنسية التي رأيتها في السينما إثارة يعود إلى فيلم أُنتج في إيران بعد الثورة الإسلامية. ففي أحد المشاهد، يجد الرجل والمرأة طيراً صغيراً في الشارع. عصفور سقط من الأعلى. يأخذان العصفور إلى مقهى، ويجلس أحدهما قبالة الآخر إلى طاولة صغيرة. وكالعادة فإن المرأة تضع وشاحاً على رأسها وترتدي الشادور، أما الرجل فيرتدي قميصاً ذا كمين طويلين. لأنه يحرّم على الرجال في إيران ارتداء أكمام قصيرة.

تبدأ المرأة بمداعبة العصفور. ثمّ يمدّ الرجل يده فوق الطاولة، وبحرص شديد، لكي لا تلامس أصابعه يد المرأة، يبدأ يداعب رأس العصفور ورقبته. وبشكل متتابع، مداعبة من المرأة، ومداعبة من الرجل... وهما يتحدثان أثناء ذلك عن مشاكلهما اليومية وعن العصافير.

لو سألت دارا، لأمكنه أن يشرح لك ألف مرة عن سير عميلة إنتاج فيلم سينمائي في إيران. فأولاً، يجب الحصول على موافقة إنتاج الفيلم. لذلك، يُسلّم السيناريو والحوار إلى وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي التي تقرر إن كان من المناسب إنتاج الفيلم أم لا. ثمّ كفاءة كاتب السيناريو، وكفاءة المخرج، وكفاءة الممثلين والمشاركين الآخرين الذين يجب أن تصدّق عليها الوزارة. وبعد كل هذه المراحل التي يمكن أن تستغرق سنة، وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك، تبدأ عملية تصوير الفيلم. لكن المحنة لم تنته بعد. فبعد المونتاج، يجب أن يُقدم الفيلم ثانية إلى وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي كي تشاهده الجهات المسؤولة بدقة شديدة، وهي إما أن تمنع عرضه على شاشات السينما منعاً باتاً، وإذا كان منتج الفيلم محظوظاً، فإن هذه الجهات تصدر أوامرها بإعادة النظر في بعض المشاهد أو قطعها كي يحصل على الموافقة لعرضه. وفي المرحلة الأخيرة، تقرر الجهات المسؤولة الموقرة في أيّ دور سينما يمكن عرض الفيلم – في دور السينما في المحافظات، في دور السينما التي توجد فيها مقاعد يمكن الجلوس عليها، أم دور السينما التي توجد فيها أجهزة عرض تعمل وفيها مكبرات صوت تمكّن المشاهدين من سماع الحوار بين الشخصيات، أم في دور السينما الخربة المتداعية ذات المقاعد الخشبية أو المعدنية، وذات الأجهزة السمعية التي تمزج الأصوات كما تشاء، والتي تعبق بالروائح الطبيعية المنبعثة من دورات المياه فيها.

أظن أنه عندما أُنتج فيلم العصفور، كان الشخص المسؤول عن إصدار الموافقة على العرض هو ذاك الرقيب الأعمى المشهور.

لا تبتسموا. أنا في غاية الجدّية. فخلال آلاف السنين من تاريخنا، كنا نسعى، نحن الإيرانيين، إلى جعل المستحيل ممكناً. وخلال فترة معيّنة، عندما كانت الرقابة المفروضة على الأفلام والبرامج التلفزيونية على أشدّها، كان الرقيب المسؤول عن القناة الرسمية الثالثة رجلاً أعمى. ولكي يقرر هل ينبغي بث أو تنفيذ الأفلام أو البرامج التلفزيونية، كان يجلس شخص أو عدّة أشخاص مع هذا الرجل الأعمى ويصفون له المشاهد، مشهداً مشهداً. وكان هو الشخص الذي يقرّر إن كان هذا المشهد أو ذاك ملائماً للبث أم لا.

هنا يجب أن أبوح بسرّ من أسرار دارا. فقد شارك في اجتماعين اثنين من هذه الاجتماعات.

كيف؟

حسناً، يحبّ بعض الإيرانيين أن يفعلوا أشياء متناقضة. ففي الصباح نمشي في الشارع ونحن نصيح: "عاش مصدّق، رئيس وزراء إيران الوطني"، وبعد الظهر، نسير في الشارع نفسه ونصيح، "الموت لمصدّق، المرتد، الخائن، الانتهازي". وبهذه الطريقة، وبصعوبة، فإننا نساعد مصمّمي عملية أجاكس الذين فقدوا كلّ أمل، والذين يراقبون بذهول تام أن انقلابهم الفاشل قد نجح على أيدي مجموعة من الإيرانيين... وتكراراً لهذا الأمر المتناقض الذي يصنعه الإيرانيون، طُرد عدد كبير من المهنيين المهرة بعد الثورة الإسلامية من وظائفهم، لأنه بدا أنهم لم يلتزموا بالثورة. وللاستعاضة عنهم، تم توظيف الأشخاص الذين التزموا بالثورة، لكنهم لم يكونوا مهنيين مهرة. وكانت الخطة أن يصبحوا بعد عدّة سنوات، وبقوة التزامهم، مهرة أيضاً. لكن العديد من الذين تم توظيفهم مجدداً، كانوا ملتزمين بشدة إلى درجة أنهم لم يكتسبوا المهارة المطلوبة في عملهم. وبعد فترة طويلة، قرر عدد من هؤلاء أن يستغلوا مهارات المحترفين المهرة الذين طُردوا من وظائفهم سرّاً. وبالصدفة، أصبح دارا طرفاً في إحدى هذه العمليات السرية. ففي ذات مساء، عندما أنهى طلاء أحد البيوت وقبض أجره، قرّر أن يذهب إلى المقهى ويدخّن نرجيلة. وبينما كان يدخّن، كان ينصت إلى شابّين يناقشان مشهد مداعبة عصفور في فيلم إيراني. وكدأبه، لم يستطع أن يمسك لسانه، فشارك في الحديث وقدّم نقداً حادّاً للفيلم من وجهة نظر صاحب النظريات السينمائية المشهور روبن وود. وكان الشابّان اللذان لم يفهما معظم ما يقوله، يلاحظان حماسته وشدة إثارته بإبداء سخريتهما صامتين. وعندما أنهى دارا كلامه، التفت إلى الشخص الآخر وسأله:

"هيه، أبتشوك إسي، هل سعدت بتباه هذا الرجل المحترم وغروره؟"

"الرجل المحترم هو خبير في شؤون السينما. إن معلوماته تتجاوز شهادة الدكتوراة التي حصلنا عليها. أظن أنه ابن عم جون واين".

"وأمه صوفيا لورين".

أدرك دارا أخيراً أنهما يسخران منه. استدار، ووقعت عيناه على عينين تنبعث منهما نظرة غريبة. كان الرجل، برفقة شخص ضخم الجسم يبدو أنه حارس شخصي، كان يجلس إلى الطاولة القريبة.

قال:

"يا أخي، يبدو أنك تعرف شيئاً أو شيئين عن السينما".

"قليلاً".

"تعال إلى محطة التلفزيون غداً، إلى القناة الثالثة. عندي عمل لك".

"سيدي! لن يدعوني أدخل إلى مبنى محطة التلفزيون. إن  اسمي مدرج على القائمة السوداء".

"ما اسمك؟"

"دارا م.".

"تعال غداً صباحاً في الساعة الحادية عشرة وقل للحارس إن اسمك هو م. دارا. من الآن وصاعداً سيكون هذا هو اسمك في محطة التلفزيون... لا تنس! إذا زلّ لسانك وقلت لهم اسمك الحقيقي، فستوقعني في ورطة. اعتباراً من هذه الدقيقة، ستصبح الخبير لديّ في أمور السينما".

نهض الرجل، وأومأ لحارسه أن يدفع ثمن نرجيلة م. دارا أيضاً. ووضع يده على كتف الحارس، وراقبهما دارا، فاغر الفم، وهما يغادران. التفت أوبتشوك إسي إلى صديقه وقال:

"ألم أقل لك إن جون واين هو ابن عم هذا الرجل المحترم؟ فقد استخدم وسائله الخاصة وحصل على وظيفة ... وانظر إلينا نحن التعيسين البائسين، حتى جاكي شان لن يشغلّنا لديه كأحمقين يشبعنا ضرباً".

الآن دعونا نتصوّر معاً أحد تلك الاجتماعات التي يعقدها الرقيب الأعمى وفريقه من الخبراء المستشارين الذي يشاهدون الأفلام. في هذا الاجتماع، يتعين عليهم أن يتّخذوا قراراً بشأن فيلم أمريكي مناهض للأمريكيين –  لم يعد من الصعوبة بمكان العثور على مثل هذه الأفلام في أيامنا هذه، وتمكّن المخبرون في محطة التلفزيون من العثور على هذا الفيلم بعد عملية بحث شاملة في أنحاء العالم. وكان من المقرر أن يُبث في يوم عطلة وطنية، عندما تتصدق محطات التلفزيون على الجمهور وتبث له أفلاماً طويلة. يُعقد الاجتماع في غرفة عرض صغيرة خاصّة فيها أثاث رائع، ومكبرات صوت غالية الثمن.

 قبل العرض الخاصّ، يقول الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:

"سيدي، أنا ضد بثّ هذا الفيلم كلية".

وعندما يُسأل عن السبب، يجيب:

"لأن كلمة "رقص" تظهر في العنوان، وكما تعرفون فإن كلمة رقص نابية وبذيئة". 

فيقول دارا بصفته الخبير في الشؤون السينمائية:

"لكن عنوان الفيلم هو "الرقص مع الذئاب". ولا يوجد ثمة عيب في عبارة الرقص مع الذئاب".

فيقول الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:

"الرقص رقص. هل تظن أن الإيرانيين سيفكّرون بالرقص مع الذئاب عندما يسمعون كلمة "رقص"؟ سيخطر ببالهم على الفور الرقص الشرقي العربي. أما الذين يقلّدون الغرب، فستخطر لهم رقصة التانغو، وفي اللحظة التي يفكّرون فيها بالرقص، فإنهم سيبدؤون بالرقص في الحال... إن وزر خطيئتهم تقع على كاهلك يا أخي".

فيقول الخبير في شؤون مناهضة أمريكا:

"لكنهم يظهرون في هذا الفيلم كيف كان الهنود الحمر أناساً متحضرين ورائعين وكيف كان الأمريكيون متوحشين. يجب أن نبث هذا الفيلم لكي يدرك الشعب الإيراني أنه من دوننا، إما أن يذبحهم الأمريكيون أو يطردونهم إلى بقعة من الأرض اليباب في أمريكا".

عندها يقول الرقيب الأعمى الذي سنطلق عليه اسم السيّد سين:

"يبدو أنكم جميعاً قد شاهدتم الفيلم. الآن أعيدوا عرضه وأخبروني ما ترونه".

يبدؤون عرض الفيلم. مشهداً مشهداً، ويضغطون على زر "توقف" ويشرحون كل مشهد يرونه في الفيلم بتفصيل شديد، وكل تصرف من تصرفات الشخصيات، حتى أنهم يصفون قسمات وجوهها وحركات أيديها. وكان السيّد سين، بخلاف الخبراء الآخرين، يجيد اللغة الإنكليزية، ولم يكن يجد صعوبة في فهم الحوار في الفيلم، بل كانت المشكلة التي يعاني منها تكمن في المؤثرات الصوتية.

"ما هذا الصوت؟"

يشرحون له أنه صوت عواء الذئب.

"هل أنتم متأكدون؟ لقد سمعت ذلك الصوت في أحد الأفلام الجنسية القذرة. تطلعوا بعمق في المشهد وتأكدوا هل هناك عمل قذر يجري في مكان ما في الخلفية".

يعيدون إرجاع الشريط ويدققون النظر. لا، للأسف لا يوجد شيء يجري في الخلفية. يتابعون تشغيل الفيلم، ووصف مشاهده للسيد سين، حتى تظهر أول امرأة في الفيلم على الشاشة. في أول مشهد للمرأة، يصيح الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:

"قصّه! قصّه. لا يمكنكم أن تعرضوا هذا المشهد".

يسأل السيّد سين:

"هيا أخبرني، ماذا ترى على الشاشة؟"

"سيدي، دخلت امرأة إلى المشهد وشعرها سافر تماماً".

"هذه ليست مشكلة. إن رؤية شعر امرأة غير مسلمة ليس مشكلة".

"سيدي، هذا ليس كلّ شيء. فجميع الهنود عراة من الخصر وحتى الأعلى".

فيقول الخبير في الشؤون السينمائية:

"حسناً، هكذا كان الهنود يلبسون. إنهم لا يستطيعون أن يُظهروا الهنود وهم يرتدون ملابس عربية".

فيسأل السيد سين:

"وماذا ترون أيضاً؟"

فيقول الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية الذي أصبح في حالة شديدة من الانفعال:

"سيدي، اسأل الخبير في الشؤون السينمائية. في رأيي أصبح بروز نهديها ملحوظاً تماماً".

فيقول السيد سين:

"إذا لم يكونا مكشوفين، فلا توجد مشكلة".

"إنهما ليسا مكشوفين. لكن ماذا عن الهنود الرجال؟ لقد صبغوا وجوههم بألوان غريبة، والطريقة التي يرفعون بها شعر رؤوسهم وأذرعهم العارية شيء مخيف".

فيقول السيّد سين:

"حسناً، لا توجد مشكلة إذا ارتعب المشاهدون".

"لكن يا سيدي، ليس الهنود هم الذين يخيفونني. إذ إن زوجاتنا وزوجات شعبنا الأخريات سيشاهدن هذا الفيلم أيضاً. ألا ترى أن رؤية أجسام هؤلاء الهنود الضخمة قد..."

فيقول السيد سين:

"لقد بثثنا عدّة أفلام كاوبوي إيطالية، وكما قيل لي كان الهنود الحمر الإيطاليون نصف عراة أيضاً، ولم يتذمّر أحد. لذلك لا توجد مشكلة".

فصرخ الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:

"سيدي! لماذا ليست مشكلة؟ فهؤلاء الهنود المثيرون مشكلة من رأسهم حتى أصابع أقدامهم".

فرد السيد سين صائحاً:

"يا رجل، لقد قلت لك إنها ليست مشكلة. كفّ عن التوتر هكذا".

 ثمّ سأله بذكاء:

"لنر. كم طوله؟"

وهنا تدخّل الخبير في الشؤون السينمائية مبتهجاً:

"سيدي، إن طوله حوالي أربعة أقدام وله بطن كبيرة جداً".

ويستمر العرض.

وقُصَّ المشهد الذي يضاجع فيه الزوج الهندي زوجته الهندية.

وهنا يصيح الخبير في الشؤون المتعلقة بالمبادئ الأخلاقية:

"توقف! يا سيدي! أوقف الفيلم".

السيد سين الذي يمسك بنفسه جهاز التحكّم عن بعد يضغط زر التوقف.

"لا تتجادلا. فقط أخبراني ماذا تريان".

"سيدي، تقف المرأة في بركة ماء وترفع تنورتها. كأنها شيرين وهي تستحمّ في بركة الماء، ونحدّق فيها نحن مثل خسرو، زير النساء الفاسق، شارب الخمر".

"حسناً، النساء جميعهن يرفعن تنانيرهن إلى الأعلى عندما يخضن في الماء. ليس الأمر كما لو كانت تلبس بيكيني".

"لكننا نستطيع أن نرى ربلتي ساقيها عاريتين".

"ماذا عن الأعلى؟ هلّ تستطيعان رؤية ركبتيها؟"

"نعم يا سيدي. الأكثر من ذلك، بعض أجزاء من فخذيها مكشوفة أيضاً".

"حسناً، قص هذا المشهد".

ويُقص أيضاً مشهد التقبيل، وكذلك المشهد الذي ينكشف فيه بطن الممثلة.

فيقول دارا الذي أصبح غاضباً الآن:

"سيدي، في هذه الحالة، لم يعد للفيلم أي معنى. ففي المشهد التالي عندما يتحدث الرجل والمرأة بحميمية، سيتساءل المشاهدون ماذا حدث، متى أصبحت هذه المرأة ودودة مع كيفين كوستنر؟"

فيقول السيد سين، وقد لاحت على وجهه ابتسامة خبيثة:

"إن مشاهدي هذه الأفلام أذكياء وسيعرفون ما حدث من تلقاء أنفسهم. وإن كان بإمكانهم تخيّل ما حدث في المشاهد التي قطعناها، يكون الفيلم قد أحدث تأثيره دون أن نبثّ المشاهد اللا أخلاقية".

ويقول الخبير في شؤون المبادئ الأخلاقية:

"سيدي، عند دبلجة الفيلم، يمكننا أن نجعلهما شقيقين أضاع أحدهما الآخر منذ زمن بعيد، ثم وجدا بعضهما الآن. في هذه الحالة، يمكننا أن نعرض مشاهد من حديثهما معاً".

يعارض الخبير في الشؤون السينمائية:

"سيدي! لكن هناك مشهد يتزوّجان فيه حسب التقاليد الهندية. فقد أُرسلا إلى خيمتهما الهندية، وهو يمسك بيدها. وتهلل النساء الهنديات كما تزغرد نساؤنا في حفلات الأعراس".

فيجيب الخبير في شؤون المبادئ الأخلاقية:

"لهذا حلّ أيضاً. عند دبلجة الفيلم، يمكننا أن نجعل أحد الهنود يقول إن هذه إحدى العادات الهندية القديمة حيث يعود الأخوة والأخوات الذين انفصلوا عن بعضهم منذ سنوات والذين وجد أحدهم الآخر ويصبحون أخاً وأختاً مرة أخرى".

يقول السيد سين:

"قُصّ هذا المشهد".

في عمليات التوقيف، والتشغيل، والإعادة، والمناقشات بينهم، كانت قد مضت سبع ساعات الآن، ولا يزال الزمن يمر إلى أن يصيح الخبير في شؤون المبادئ الأخلاقية في منتصف أحد المشاهد فجأة:

"اقطعه! اقطعه! لقد تباوسا. لقد قبّل أحدهما الآخر".

وتعقب ذلك مناقشة بما ينبغي عمله حيال هذا المشهد. فيقول الخبير في شؤون المبادئ الأخلاقية:

"كنت أتمنّى أن يقبّل أحدهما الآخر كما يقبّل الأخ أخته. في هذه الحالة، إذا صوّرناهما كشقيقين، فإن المشاهد سيجد ذلك شيئاً مقبولاً تماماً".

فيقول السيد سين:

"في تلك الحالة، لو رأى المخرج نسختنا المدبلجة فمن المؤكد أنه سيوافق عليها، لأنهما لو كانا شقيقين، ولو وجد أحدهما الآخر بعد سنوات عديدة، لأصبح الفيلم أكثر درامية".

يرتعش دارا غضباً ويقول هادراً:

"عندها سيصبح فيلمه مثل أفلام بوليوود، أو الأفلام الإيرانية".

محبطاً، يقول السيد سين:

"حسناً... اقطع هذا المشهد أيضاً، لكن لا تقطع المشهد السابق الذي يقرّب فيه أحدهما رأسه من رأس الآخر. بهذه الطريقة سيظن الجمهور أنهما يريدان أن يتهامسا بأحد الأسرار الهامة عن الذئاب أو الهنود".

تستمرّ عملية الرقابة من دون أيّ مشاكل أخرى، ويتنفس كلّ منهم الصعداء لأنه لم تكن هناك مشاهد أخرى تستحق القص والبتر.

في الوقت نفسه تقريباً، بينما نشاهد فيلماً على التلفزيون، نرى فجأة أنه بعكس أسس صناعة الأفلام، وعلى نقيض المبادئ الأساسية في صناعة السينما، تتغير لقطة متوسطة فجأة لتصبح لقطة قريبة. لقطة مجسّمة باهتة جامدة. يستغرق الأمر لحظة لندرك أن هذا لا يحدث إلا عندما تدخل الممثلة إلى المشهد. وبعد الكثير من البحث، علمنا أنه لكي نتجنّب تقطيع الأفلام بحوالي خمس وأربعين دقيقة، ولأن حذف بعض المشاهد يُفقد الفيلم معناه، وجد المسؤولون عن مراقبة البرامج التلفزيونية، باستخدام أحدث التقنيات حلاً فنياً سينمائياً. فإذا كانت الممثلة في أحد المشاهد الهامة ترتدي قميصاً من دون كُمّين أو تنورة قصيرة، فإنهم يعيدون أخذ لقطات من وجهها في لقطات مقرّبة ويحشرون هذه اللقطات في الفيلم. وإذا أتيحت لكم المناسبة لتروا إحدى تلك النسخ المعدّلة أو المرمّمة بدقة، أرجو أن تنقلوا للمخرج دهشتي الحقيقية بالنيابة عني.

"ماذا توقّعتم؟ توقّف عن الرفس وعن الصراخ وتوجه للصلاة وحمد الله. أليس هذا أفضل من أن تقص بمقصك الأذرع والسيقان والنهود في فيلمك؟"

في مثل هذه الظروف نزل الوحي الأوليمبي في ذلك المشهد الخلاّق الذي يصوّر رجلاً وامرأة يداعبان عصفوراً على صانعي ذلك الفيلم. وثمة نقطة مثيرة أخرى تتعلق بهذا الفيلم وهو أن العصفور كان أفضل ممثل فيه، لأنه لم يبد أي محاولة للهرب من قبضة ذلك الرجل وتلك المرأة، ولم يبد أي اعتراض على ظروفه التعذيبية المؤلمة. فقط تخيّل نفسك عصفوراً لا حول لك ولا قوة في يدي رجل وامرأة يشتهي أحدهما الآخر على نحو يائس، لكن لم يلمس أحدهما الآخر أبداً. والآن، رغماً عنهما، يرتديان ثيابهما بالكامل، وهما في مكان عام، ويجلس أحدهما قبالة الآخر، ويتناوبان على مداعبتك. يمر الوقت، وتبدأ الهرمونات المستترة ترشح وتنضح، وهما يواصلان مداعبتك، والمخرج، الذي ربما كان معجباً بإلهامه بهذا المشهد الفني، يدعو إلى تقديرات متعدّدة. فلو كان أيّ منّا في مكان ذلك العصفور، بين قبضتي رجل وامرأة مستثارين إلى أبعد درجة، فإني أشكّ في أنه ستبقى فيه عظمة واحدة سليمة... 

ما زال دارا وسارا في صالة السينما، يجلسان وذراع أحدهما قريبة من ذراع الآخر. ومن دون عصفور يداعبانه، لا يوجد لديهما الكثير يفعلانه إلا أن يشاهدا هذا الفيلم الإيراني الفني. وتدور قصة الفيلم عن فتاة وفتى عاشقين. وكان الفتى قد طلب يد الفتاة للزواج، وقال له والد الفتاة بما أنه لا يملك بيتاً، فلن يقبل به زوجاً لابنته. ثم حدث زلزال، ودُمِّرت جميع البيوت، فعاد الأمل إلى نفس الفتى، لأن الجميع أصبحوا الآن مشرّدين، لا يوجد بيت يؤويهم، وربما أصبح والد الفتاة الآن يوافق على زواجهما. كانت سارا ودارا مأخوذين بمشاهد فلم عباس كياروستامي، والحزن والألم يعتصرهما إلى درجة أنهما نسيا أن هذه هي المرة الأولى التي يجلسان فيها  قريبين من بعضهما. وخلال المشاهد النهائية من الفيلم، تترقرق الدموع في عينيهما.

بعد أن يغادرا دار السينما، يسيران معاً صامتين لفترة طويلة. ثمّ تلاحظ سارا أن دارا يتعمد أن تتوافق خطوته مع سير خطوتها، وكأنهما يسيران في عرض عسكري.

سارا تبتسم وتشير إلى قدميّ دارا وتسأله:

"لماذا تفعل ذلك؟"

"لا أعرف. اسألي قدمي".

  "لماذا صوتك يرتعش؟"

"اسألي قلبي".

بهذه الجملة، يبدأ قلب سارا يخفق بسرعة.

يسألها دارا:

"ماذا يجب أن نفعل الآن؟"

"لا أعرف، اسأل قدرنا".

  "أين هو قدرنا؟"

"لا أعرف، اسأل مصيرنا".

يقول دارا في نفسه، أدعو الله ألا يكون مصيرنا بين يدي كاتب جبان، بائس، يناله مقص الرقيب... وبلا وعي، وبخلاف العشاق في أرجاء المعمورة، يتجنبان أن يتمشيا في الشوارع الهادئة والأزقة الجميلة التي تحفّها الأشجار. إذ إن السير فوق رصيف مزدحم، يعجّ بالمارة، يقلّل من خطر رؤيتهما واعتقالهما. لكن سارا لا تستطيع، ولو للحظة واحدة أثناء جولتهما البريئة هذه، أن تنسى الخوف الذي يسيطر عليها من أن يُقبض عليهما. ففي السنة الماضية، عندما عادت إحدى زميلاتها إلى الجامعة بعد غياب شهر كامل، وهي في حالة نفسية سيئة، أخبرت سارا أنه أُلقي القبض عليها مع صديقها منذ شهر عندما كانا يتفرجان على العصافير في حديقة عامة هادئة. وفي الليلة الأولى من توقيفهما، أخذوها إلى الطبيب الشرعي للتأكد إن كانت لا تزال عذراء أم لا. ثمّ اتصلوا بأبويها. وقبل أن يطلقوا سراحها، أخذوا منها تعهداً خطياً بألاّ ترتكب مثل هذا الإثم مرة أخرى، ووُجهت بدموع أمّها التي لم تتوقف هي وأبوها المتعصّب وأخوتها عن توبيخها وتأنيبها بقسوة تخلو من الرحمة. وأخذ الجميع، حتى أقرباؤها، يوبّخونها لأنها جلبت العار على العائلة كلها. وباحت صديقة سارا لها، بعينين باكيتين، بأنه لم يسمح لها بأن تأتي إلى الجامعة أو حتى أن تغادر البيت. وكانت حالتها النفسية محطمة، وشعورها بالمهانة عميق جداً إلى درجة أنها لم تكن تريد أن يراها أحد خلال ذلك الشهر. وقد مارس عليها أبوها وأخوتها ضغطاً شديداً حتى أُجبرت في نهاية الأمر على أن تبوح بعنوان الشاب الذي كان معها. وعندما أُطلق سراحه بعد عشرين يوماً من الاحتجاز، حاصره أخوتها وعمّها الجلف في أحد الأزقة وأوسعوه ضرباً. وقد تعلّمت صديقة سارا درساً قاسياً نتيجة لقائها الرومانسي حتى إنها أصبحت تخشى، دون شعور منها، أن تقترب من أي فتى على الرصيف. وبالطبع، ساعدها الزمن على نسيان عذاب هذه الحادثة ومهانتها، وخاصة بعد أن اشترت عندليباً في قفص من محل بيع الحيوانات الأليفة دون أن تعرف السبب، وأمضت ساعات بعد الظهر الكئيبة المملة وهي تراقبه، وتنصت إليه، وتحاول مداعبته.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-