الجِسْرُ والهَاويةُ؛ مَنَاحَاتٌ شعريّة مُلتبسةٌ


الجِسْرُ والهَاويةُ؛ مَنَاحَاتٌ شعريّة مُلتبسةٌ


الجِسْرُ والهَاويةُ؛ مَنَاحَاتٌ شعريّة مُلتبسةٌ

-حِوارُ الأرواحِ-
رَحيم دَودِي



لقد آثرت أنْ تكونَ هَذهِ الورَقَةُ، التي سَأُقدّمها، في هذا اليومِ الدراسيّ، احتفاءً بالشّاعر المغربيِّ الكبير محمّد بنطَلحة، ورقةً إبداعيّة لا تَعْمَدُ إلى تَوصِيفِ سِيرته الشعريّة "الهاويّة والجسر" –المتنُ الذي ستنصبّ حوله الدّراسةُ- توصيفا نقديًّا، بقدر مَا تتغيّا البَحث عن الأسئِلة الأنطولوجيّة العميقة (أُسمّيها في هذا السّياق المِحنَ الأنطولوجيّة) التي تراودُ شاعرنَا الكَبير وتنغّصُ عليه صفاءَهُ وتَلدغهُ كلّما هَمَّ بتدبيجِ قَصِيدة أو تَحْبِير وحي أَشرقَ فِي روحِهِ.

إنّنا أمامَ تجربةٍ إبداعيَّةٍ عميقةِ الغَور، تَغْتَرِفُ نُسغها من عوالمَ فكريّةٍ وفلسفيّةٍ بالغة العمْقِ والتنوّعِ؛ تجربةُ تأمّلٍ أنطولوجيٍّ لشاعرٍ يَقتادُ الكَلمات، بكلّ حذقٍ وغوايةٍ، صوبَ حَافَاتٍ شَاهقة ليطلّ، بشاعريّة فذّةٍ ونفّاذةٍ، على هاويةٍ لا قَرارة لها. فكلّما توغّلنا في قراءةِ هذه السّيرة المدموغةِ، أطلّت علينا صورةُ الشّاعر وهي تَهْرِبُ -في قَاعِ الهَاوية دائماً- من حاضرٍ مثلومٍ، زَلق، هشٍّ، وباهت، لتستلقيَ في حضرةِ ماضٍ لا يموتُ. وفي هذا الصّراع المحتدمِ بين الأزمنة، تحترقُ اللّغة بين أنامل الشّاعر وتُدَحْرِجُ نَارَهَا عَلَى الجسّر اللامرئيّ للرّوح.

اتكاءً على رمادِ هذه الاحتراقاتِ، وبناءً على هذه الرؤى المثقلة بالمعنى، فإنّ ما حبّرته في هذِهِ الورقَةِ هُو حِوارٌ روحيّ نَابِعٌ من تَشَرُّبي للمعاني الإنسانيّة العميقةِ، الثاويّة في هذه السيرة الشعريّة. والتي تُذكّرنا، في الكثير من مَسَارَاتِها ومحطّاتها، بِسِيرِ كبار المفكّرين والأدباء العالميين.

تساوقاً وَهذه الرؤى، يمكن القولُ إن سيرةَ "الجسرِ والهاوية" تتخلّق داخلَ ثلاثِ محنٍ أنطولوجية كُبرى، هي على التوالي: محنة السّؤالِ ومحنةُ المكانِ ومحنة الزّمن:

محنةُ السّؤال:

وأنا أغلقُ هذه السيرةَ الشعريّة، أفتحُ في خزائنِ الرّوح جِرَاحاً سَودَاءَ يعرّشُ في عُمقها سحرُ المَعْنَى وفِتنَةُ الاسْتْعَارةِ.
 أيّ شاعرٍ هذا الذي يقفُ بين جسرٍ (أو بالأحْرى جُرحٍ) وهاويةٍ مُحاكِيا الغيومَ الفاجرةَ وهي تتدلّى من دوائرِ اللازوردِ المصفّى!؟
في عينيه يطلّ نهم لُغَةٍ تَتغذّى من ظِلالِهَا الهَاربة. لغةٌ جائعةٌ؛ كلّما اقتربتْ مِنْ مُلامَسَةِ مُطلقِهَا فَرَّ الشّاعر إلى دَواخِلهِ مُحتمياً من صَاعقةٍ مُحتملة. ولا يَكُفُّ (الشّاعر) عن السّؤال، لا يكفّ عن الحَفْرِ: من أين تنبثق القصيدة؛ يَقْصِدُ من أين تنبثقُ الصّاعقة؟

 لَهَا أنْ تَنْبَثِقَ مِن اِلتباساتِ الأُفُقِ. ولَهَا، أيضاً، أَنْ تتفتّق، من شُقُوقِ كَاتِدرائيَّة النّفس المُتَصدِّعة. الأمر سيّان. لكن الشّاعر الغريب لا يقنعهُ الجواب، فَينزلُ إلى جُرنٍ يُسمّيه هَاويةً ويتلصّصُ على آخَرِهِ الذي يقبعُ في أَعْمَاقِهِ، ولا يَكفّ عن المُناغشة والحفر في مقبرة الذّات باحثاً عن أناهُ؛ وكأنّي به يسأل: "مَنْ ذَا َأكونُ ومَنْ ذَا تَكُونُ إذا لَم يَفهم أَحَدُنَا الآخر؟". وبهذا المعنى، فإن الذات لا تَتَحَقّق بِمعناها الوجوديِّ إلا داخلَ الانفتاحِ على أبعادها الأخرى المستترة في طواياها، هكذا يعلّمنا الشّاعر. إلا أنّه حين يصل عند نُقطة التّماس القصوى؛ يستحيلُ الانفتاح ابتهالاً جنائزيًّا أليماً، مُفجعاً، قاتماً/ مناحةً تبكي فيها ذَاتٌ ذَاتَهَا بعد أنْ تَهَرّأت تَحتَ عجلاتِ زَمنٍ ضارٍ، طاحن لا رادعَ له ولا ضابط.

 بين سؤالٍ مخيفٍ يتمدّد على فراغٍ طعينٍ، وجوابٍ يتبرعم ويزحفُ على سياجِ الحيرة كالليّلك الحرّ، يَمُوتُ الشّاعرُ في لِيلِهِ مرتيّن، وحِينَ يُبعث في صَبَاحِ الكِنَايَةِ يستأنف رحلته الضَّارِيةَ، للبحث عن جوابٍ يَقيه وعثاءَ اللّهاث وراءَ معنًى قد يستقرّ على حالٍ. وهل يستقر المعنى؟ ومتى استقر آخر مرّة؟ لا أذكر أنّه استقر يوماً. سمعتُ يوماً صوفيًّا، قادماً من بلادٍ بعيدةٍ، يقول بلسان الأنبياء: إنَّ المَعنَى منذورٌ للهروبِ الدّائمِ، منذور للانفلات، إنّه قرينُ السّراب وقَرينُ حَقِيقةٍ كلَّما اكتملت بانَ نَقْصُها. فَحُكَّ اللّفظ جيداً تجدْ نُثَارَ مَعْنَاهُ فِي لفظٍ آخَر، وكأنّك أمامَ "المركز اللاوجود له إلا بهندسة الهاوية، الهباء الذي تدور حولهُ الحركة بدون أن يكون لهذا المركز من وجود سوى لأنه دائرةُ كلّ دائرةٍ " وقلب الهاوية.

تَتّسِعُ الدّوائِرُ وتَتَطهّمُ الأسئلة المأتميّة عَن طفلٍ كان حُفنةَ نورٍ. عَنْ مَدِينة كَانَتْ حُلْمًا. عَنْ كِتَابٍ كَان وحياً. وعن جُرحٍ لا يزال يَنْبِضُ بالمراثي. لَعينةٌ هِي هاوية السؤالِ. ولعينٌ هو هذا المروقُ الشّفيف إلى قلب جوابٍ لا يُجيب. وتَنْدَلِعُ حيرةُ الشّاعرِ: أيُّهمَا أَقْدَرُ عَلى سَدّ هذا الفراغِ المُستفحلِ: قصيدةٌ تحترقُ فِي زورقِ السّؤال أم سؤالٌ يتلظّى في جُرحِ القَصِيدة؟!

وهكذا تَتَنَاسَلُ الحَيرةُ/ الأسئلةُ المُوجعةُ/ الألمُ العنيفُ بشَكلٍ لولبيٍّ يعرّي نَفسهُ بنفسِهِ. آهٍ يَا ريكله، لا بُرجَ في الأفق، وفي الدّم تهدرُ ضروبٌ من الصّخب. والحلّ، يَلجَأُ الشّاعرُ إلى حِبرٍ يبثُّه أَلَمَ السّؤالِ فيجعلُ الواقعَ يتنفسّ من ورقِ جَسَدِهِ المُتقصّفِ.
 الحلّ هو أن يقف بكلّ شموخِ وأن ينكأ القصيدة/ الجرحَ فَوقَ الهَاوية، ويَمشِي عَلى جسرِ السّؤال قبل أنْ يمشيَ الجسرُ تحت قَدميهِ. حينها لن تنفع القصيدة؛ أقصدُ لن ينفع السّؤال.

أيّها الشّاعرُ المتوغّلُ في سديمِ زهرة الهَندُبَاء، كلّما ارتعشت أناشيدُ الحياةِ في رموشِ استعاراتكَ القَشيبة، أشرعت نوافذك على الغيب، وعُدْتَ إلى قَلَقِ السُّؤال.
السّؤالُ، هنا؛ اختراقٌ واحتراقٌ. السؤالُ، هنا؛ انبثاق وانعتاق. أمّا الجوابُ فيقينُ العاطلين عنِ السؤالِ. وكأنّك لم تُخلق إلا لتَحفر جِبَاهَ الصّمت ووحشة اللغةِ، بأكثر أدواتِك إيلاماً، ناسفاً جبالَ هذا اليقينَ المتعاظم والمتفاحش.

محنة المكانِ:

يغني الشاعرُ بكلماتٍ كتيمةٍ ونغمٍ إنساني داغلٍ في سريّة الكائن وجوهريّة المكانِ. يغني للسماءِ في زرقتها الصافيّة غناءً يتزاوج فيه الشعريّ بالنثري ليرقدا معا في مضجع السيرة الحُبلى بالحياة. وبين نثرٍ شعريٍّ وشعرٍ منثورٍ، تَبْزُغُ صُورٌ مُلتَبِسَةٌ وغَامِضَةٌ عن مَاضٍ يَمْضِي ولا يتوقف: طرقُ الذاكرة ملتوية. لغة خوّانة وهتّاكة الأسرار وقاصرة عن احتواءِ انشطارات الرّوح الهائمة بين جسرٍ وهاويّة.

لا مَنْفَذَ للحقيقةِ سِوى الانصياعِ لسحريّة المكانِ اللامرئيِّ. إلا أن الأمكنة، بتحديد إتالو كالفينو، بدورها، تتعدّد، تتوالدُ، تتداغلُ، وتندغم، في النّزع الأخير، داخلَ أُتُونِ الإليغوريا. وهنا، في نقطة الارتجاجِ العاصف، نحتاجُ لموهبة ""بورخيس" -على حدّ تعبير الشّاعر- لترويض جموح شلالاتِ أفضية منهمرة تتبدى تارةً وتمّحي تارة أُخرى.

لكنّ الشّاعر، وهو ابن الأرض كما يقولُ هولدرلين، يقفُ، كاتما كلّ أوجاعه ومناحاتهِ الأليمة، يقفُ كسنديانةِ، آذناً لجذوره أَنْ تَتَغَلْغَلَ في ذاكرةِ المكان. وكأنّ لسانَ حالهِ يقولُ: هُنا في البُحيراتِ الداخليّة للرّوح تغرقُ الأمكنةُ، مرئيّة كانت أو لا مرئيّة، والأزمِنَةُ السائلة تغرق أيضا، ويفيضُ المَعْنَى المُقطّر من عُيونِ المَلاكِ اليتيمِ.

 من قال إنّ للأحيازِ ذاكرة؟ من قال إن للأمكنة حفراً تنامُ فيها، هي حفر الذّاكرةِ؟ أَيْ نعم، إنّ للأمكنة ذاكرة. ذاكرةٌ مُشْرَبَةً بِألوانِ النّفس البَشَرِيّة فِي كُلّ تَجَليّاتِها. ذَاكِرةٌ تَتَأبّى عَلَى الامِحَاءِ. والدّليل نَاصِعٌ: فالأَعْمَى مِنْ لم يرَ غَرنَاطة فِي عيونِ قصر الحمراء. وأعمى، كذلك، من لم ينفذ إلى تلك الصّور المفروشةِ على حيطانِ المنّارة العاليّة. وهذه محنةٌ أخرى تَسْكُنُ الشّاعر وتسري في ليلِ عُزلته.

محنةُ الزّمن:

أُديرُ ظهري لنافذةِ الزّمن وأطلّ، منْ عيونِ شيخٍ، على عُشْبِ طُفولتي، فَأَرانِي حُلْماً بِلا لونٍ يمتطي الكلماتِ الجامحةَ العصيّةَ على الترويضِ. آهٍ أيّتها المرآة المُقعرة، يا سيّدةَ الأشكالِ والوجوهِ، هل يشيخُ الشّاعرُ والقصيدة في دمه تسيل ما تزال؟ آه، يا بحيرة تتجعّد على مرآة أيامي كيف أعيد للجسد جسدهُ وأبثّ النار في الخلايا وأزرع النّجوم في حنايا أضلعي؟ ربّما عليّ أن أعلّم "الرّوح كيف تغنيك في صباحات البحر والضوء"..

  هذا الألم القدري، الذي يولّده هروبُ العمرِ منكَ يا شاعرَ الحقيقة، تحتالُ عليه القصيدة/ قصيدتُك فَيَؤُولُ الألمُ النّاغلُ مَعَهَا أشكالاً سديميّةً، تتحوّل داخل التموّجِ الكهنوتيّ الملتبس، إلى كيمياءٍ داغلة في الغموضِ، بقدر ما هي غَرِيبَةٌ غَرابةً مُفرطَةً، هي أليفة أيضاً، لأنّها تخاطب المجهول النّائم، والعَاتِمَ، والمُتَوارِي في الشّقوقِ الرّحْبَة للحقيقةِ. وهُنا، في هذا الممرّ اللولبيّ، المسجور بالذّاكرة والنّسيان، أتذكر قول الكبير بيسوا "كلّ شيء يُفلت منّي. حياتي كلّها، ذكرياتي، مُخيلتي بما تحتويه، شخصيتي، الكلّ يتبخّر، أحس باستمرار أنّني كنت شخصا آخر، وأنني أحسست وفكّرت بأنني آخر". فهل تشتركان معا. لابدّ أن الشعر قد صبّ عليكما جامَ لعنته. فما أجملها من لعنة!





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-