[قصّة قصيرة] | التخشّب

التخشّب

محمّد البوعيادي






التخشّب




"ذات مرة حمل طفل صغير سلة برتقال ومرّ قرب حانوت صغير لحلاق عجوز". بداية سيئة. "ذات مرة نظر طفل صغير إلى فراشة في الساعة الرابعة والعشرين من عمرها، فأمسك بها وتفككت في يديه غبارا ناعما". قطعا ليست هذه هي البداية الملائمة لما يريد أن يعتبره دخولا مدويا لدرس تافه. "في بلدة صغيرة على ضفاف نهر يهدر قبل بدء الخليقة، وقف رجل عجوز بلحية تكاد تمس الأرض وفي يده صولجان خشبي، ومن عينيه كانت تنهمر دموع براقة مثل الشمس وقد تكدس تعب الكون كله في صدغه المنكمش." لا.
"تمايلت التنورة الصغيرة في الريح كاشفة عن ساقين من المرمر الأسمر، فالتفت كل رواد المقهى ..." بداية مُبتذلة.
أصبح يجد مشكلة في بناء أي سردية ولو متخيلة، البدايات البراقة ساحرة، لكن ما يأتي بعد هو الشيء الأكثر ابتذالا في الوجود، كل شيء يأتي بعد يعتبر انحرافا عن جمالية البدء، لذلك لم يكن بمقدوره أن يبدأ أي شيء، وكان عليه دائما أن يبدأ بأي شيء، في النهاية ما الحياة إن لم تكن إلزامات متتالية ببداية شيء وإنهائه ثم تكرار النمط نفسه إلى ما لانهاية. مع مرور الساعات، أصبح غير قادر على الكلام، وتناقص عدد كلمات الجُمل حتى صار منعدما.


كانت الساعة السادسة مساء، ولم يأكل شيئا منذ يومين وهو يحاول كتابة مقدمة للدرس الموالي، تعوّد دائما أن يبدأ دروسه بقصة صغيرة، يستخلص منها حكمة ما، ثم يبدأ في الثرثرة، لكن شيئا ما تغيّر هذه المرّة، وليس بمقدوره أن يحوّل الموقف إلى نكتة كما يفعل دائما.
طوى جريدته تحت إبطيه وهو يسير نحو زاوية الشارع حثيثا نحو المقهى المعتاد، ارتاح لرائحة القهوة الجيدة وهي تفغم أنفه، قبل أن تترك لدغة لذيذة تحت اللسان. لكن وعلى غير المعتاد نظر إليه النادل هذه المرة، نظرة غريبة لم يرها في عينيه يوما، وهو الذي يخدمه كل صباح ومساء ما ينيف عن العشرين عاما. ولم يملك الكلمات ليسأله، لكن طعم القهوة صار مثل طعم خشب الصندل.
في البيت جلس أمام التلفاز، وأخذ يقلب في البرامج والأفلام والمسلسلات، لم يستطع تتمة أي واحد منها، كلها تفقد شيئا ما حين يكتشف رأس الخيط.
نام وفي الصباح قرر ألا يذهب إلى الكلية، لن أقدم أي دروس قبل أن أجد كلماتي الضائعة، ثم اتصل بالعميد وحاول أن يشرح الموقف، لكن شيئا ما يمسك بترقوته ويمنعه من الكلام فرمى سماعة الهاتف بعنف. حاول العودة للنوم، لكنه انتبه لكونه جائعا غير راغب في الأكل، قام للمطبخ وقشر بعض الفواكه، لكنه تركها هناك نصف جاهزة إلى جانب كرتوش الحليب المفتوح، وارتدى سروالا أزرقا مهلهلا وحذاءه البُنّي المُضحك ثم غادر نحو الكلية عازما على تحدي الخشب المتكدس في حنجرته.


في مواجهة ثلاثمائة ثرثار وثرثارة، كانت دقيقة الصمت الأولى صادمة، لقد تعودوا أن يشق صوته المدرج وهو يغازل الكلمات ويغمز بعينه اليسرى شبه الحولاء. لكنه لم يفعل شيئا سوى الوقوف والنظر إلى الوجوه البلهاء، السمينة والنحيفة والكثة والصلعاء والبيضاء والسوداء والمزيتة والجافة المقشرة والهادئة والشيطانية...حاول أن ينطق، لكن مجاهدته للكلمات تحولت إلى رغوة تطايرت من شفتيه، وفي غمرة الصمت الطريف ارتفع صوت مشاغب:
لابد أن لسانه تحول إلى قطعة خشب.
وقالت طالبة: لقد اكتشف حكمة أن يصمت متأخرا.
وأردف طالب آخر : وداعا أيتها القصص المُملة السمينة المُكوّرة.
قال آخر: لابد أنه لازال متأثرا بوفاة بقرته السمينة.
وارتفعت الأصوات وتعالت القهقهات، وسقط بعضهم وقام آخرون، وصفّر بعض المتنمّرين ونهق آخرون، وقامت قيامة ودقّت ساعة الحسم، وجاء يوم الحساب، سيسلخون جلد العجوز الثرثار، لم تعد لديه كلمات، أين القصص الساخرة أيها القزم؟. لن يدرسوا، لن يكتبوا، لن يضطروا للحفظ، لن يسخر منهم بملاحظات صغيرة على حواشي الأوراق، تلك التي كان يوجهها للذكور خصوصا، من قبيل: "هل كتبت هذا وأنت تعاني من آلام الدورة الشهرية".


كل ذلك الهتاف والهستيريا وهو مسمّر مكانه يحاول نطق كلمة واحدة، لكن عُسرا غريبا في النطق أصابه، ولم يتوقف الأمر على لسانه، فقد شعر بأن قدميه تحولتا إلى جذور شجرة شقت إسفلت المصطبة الصغيرة عميقا نحو المجهول.
تجمهر الطلبة خارج المدرج، ودخل بعضهم ليشارك في حفل التأبين، إنه يوم مشهود ستذكره مجلدات التاريخ وتقام له الاحتفالات وتقدم الأضاحي وترتفع التنانير. اقترب طالب وأخذ يقلد القرود وهي تحاول أن تنطق، مباشرة أمام وجهه، لكنه لم يجرؤ على الكلام ولا أي رد فعل. لقد كان مشدودا إلى جذور خشبية صعدت من بطن الأرض وعششت داخل عنقه.
دلف العميد إلى المدرج، تسبقه بطنه ونظاراته الكأسية، فصمت الجميع. كان يحمل كراسة بيضاء في يده ويتنحنح بصوت وقور، نظر إليه ثم أمسكه من يديه وأخذ به خارج المدرج وهو يتمتم :"لابأس، تحتاج عطلة".
وخلفه كان الطلبة يطبلون ويرقصون ويغنون:"مبروك علينا هذي البداية مازال مازال"، وقال الكثيرون: "لن تر الكلية عرسا مثل هذا مرة أخرى". لزم الصمت وهو يتبع العميد إلى مكتبه، ويجس نظرته المُشفقة ونبض بطنه العظيم.
وفي طريق العودة إلى البيت، كان حزينا، ووحيدا، ودون أدنى جهد هذه المرة نطق كلمة واحدة، وأخذ يرددها بضع مرات دون عناء وهو يبكي. ماذا قال؟ ليس مهما لأن أحدا لم يسمعه.






تقدّم لكم(ن) مدونة منهجيّتي، في هذا الركن الثقافي والأدبي المتفرّد، باقة متنوعة من قصص وقصص عربية، وأيضاً قصص الاطفال، قصص للأطفال، وهي قصص قصيرة، قصص اطفال، كما أنها قصص واقعية، مثل قصص الحب، قصص حب، وقصص الأميرات، قصص الاميرات، بالإضافة إلى أن هناك عدة قصص اطفال مكتوبة، قصص للاطفال، قصص المكتبة الخضراء، وقصص قبل النوم، قصص اطفال pdf، قصص أطفال pdf، ومجموعة كبيرة جدا من قصص وحكايات : قصص رومانسية، قصص اطفال قبل النوم، قصص الاطفال قبل النوم، قصص للاطفال قبل النوم، قصص حب قصيرة، قصص بالانجليزية، قصص انجليزية، قصص قصيرة للاطفال pdf، قصص للأطفال بالفرنسية، قصص باللغة العربية.
تعليقات