منهجيّة تحليل نصّ شعري : قصيدة "في القفر"، إيليا أبو ماضي

منهجيّة تحليل نصّ شعري ينتمي لحركةِ سُؤال الذّات (الرومانسيّة)


        للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


قصيدة "في القفر"، إيليا أبو ماضي، ديوان الجداول، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى 1960، ص 48/51، (بتصرّف).

منهجيّة تحليل نصّ شعري ينتمي لحركةِ سُؤال الذّات (الرومانسيّة)



شهدت منطقة الشام (سوريا ولبنان) في مستهل القرن العشرين ظروفاً سياسيّة واجتماعية واقتصادية خانقة، أدّت إلى هجرة كثير من أبنائها نحو أمريكا هروباً من أشكال الظلم، وبحثا عن أسباب الرزق، ونشداناً لنسائم الحريّة. وكان من بين الفئات المهاجرة جماعة من الشعراء الذين اندمجوا في المجتمع الجديد، واحتكوا بالثقافة الغربية، فتولّدت لديهم رؤية جديدة للأشياء والإنسان والحياة والكون. وقد انتظم هؤلاء الشعراء في مدرسة شعريّة تسمّى "جماعة الرابطة القلميّة"، وهي تيار قام على دعائم وأسُس النّزعة الرومانسيّة عبر الاحتفاء بالذّات والوجدان، والدعوة إلى الطبيعة. ويعدّ إيليا أبو ماضي من أبرز شعراء هذا التيّار، بحيث عكست دواوينه الشعريّة مجمل الخصائص الرومانسيّة التي طبعت الشعر العربي، خاصة في الفترة الممتدة بين أوائل القرن العشرين والأربعينيات منه، ومن أشهر هذه الدواوين، نذكر: تذكار الماضي، الجداول، تبر وتراب.


والنصّ، كما هو واضح من مصدره، مُقتطف من ديوان "الجداول"، ويظهر من خلال عنوانه (في القفر)، أنه يعكس دَعوة الشّاعر إلى اتخاذ الطبيعة ملاذاً يخلّص الإنسان من هموم المدينة وأدرانها، حيث يحيل "القفر" على المكان الخالي من الناس، كما يمكن أن يعود على الصحراء أو الغابة، أو أيّ مكان خالٍ. وبهذا، فالعنوان مؤشّر قوي يقودنا إلى افتراض بأنّ النصّ ينتمي إلى تجربة "سؤال الذات" في الشعر العربي الحديث.
فما هي المعاني الواردة في النصّ؟ وماهي الحقول الدلاليّة المهيمنة فيه؟ وما طبيعة العلاقات القائمة بينها؟ وما الخصائص الفنية المتوسّل بها؟ وإلى أي حدّ تمكّن الشاعر من تمثيل خصائص تيّار الذّات في نصّه هذا؟   


تدُور القصيدة حول فكرة محورية هي هروب الشاعر من عالم المدينة الزائف، ولجوؤه إلى عالم الطبيعة المثالي، وعن هذه الفكرة تتفرّع ثلّة من المعاني الأساسيّة:
-     ملل نفس الشاعر من حياة الناس وقيمهم الزائفة (1-4
-     دعوتها له إلى الخروج من المدينة إلى القفر لمُعانقة عالم الطبيعة المثالي (5-12
-     ترك الشاعر لعالم المدينة رفقة نفسه واستمتاعهما في القفر بعناصر الطبيعة المتنوّعة (13-17).
إنّ أوّل ما يستوقفنا في هذه القصيدة هو المعجم الذي جاء مُعبّراً عن التيّار الذاتي الرومانسي، من حيث قيامه على عدّة حقول دلاليّة يمكن التمثيل لها على الشّكل الآتي:
-     حقل الطبيعة: القفر، الليل، الشهب، الأرض، الفضاء، السواقي، الغاب، الأوراق، رحيق، الفجر، العشب، المساء، الصباح، الروابي، الشمس...؛
-     حقل الذّات: سئمت نفسي، ملّت من الأحباب، أوصابي، كتابي، صلاتي، كؤوسي، غنائي، هجرت...؛
-     حقل المدينة (عالم الناس): الناس، الأحباب، طعامهم وشرابهم، الكذب، المدينة، العمران...؛




منهجيات اللغة العربية | للسنة الثانية بكالوريا | مسلك الآداب والعلوم الإنسانية





من خلال ما سبق يتبيّن لنا أنّ حقل الذات يدخل في علاقتين مختلفتين مع الحقلين الآخرين؛ فالذات متعارضة مع عالم المدينة، نظرا لسلبياته (الكذب، القبح، الزيف...)، وتدلّ على هذا التعارض عبارات من قبيل: سئمت، ملّت،...، وهي ألفاظ توحي بكراهية الشاعر لهذا العالم، وقراره (هجرانه، وتركه ونفض يده من غباره). أمّا علاقة الذات بعالم الطبيعة، فهي على النّقيض؛ علاقة اندماج وتوحّد وتماه، ولا أدلّ على ذلك من أنّ الشاعر جعل من عناصر الطبيعة ناطقة باسمه معبّرة عن مشاعره وأحاسيسه.
وإذا انتقلنا إلى دراسة وتحليل الصور الشعريّة التي حاول الشاعر من خلالها تصوير تجربته الذاتية في هذا النص، وجدناها مغرقة في التّخييل مقارنة مع الصور المألوفة في الشعر التّقليدي، وعند الشعراء الإحيائيّين، ولا أدلّ على ذلك من أنّ النصّ قد اشتمل على جملة من الاستعارات التي نهضت على أساس ما يمكن أن نسمّيه "أنسنة الأشياء" وخاصّة عناصر الطبيعة. ومن أمثلة هذه الاستعارات نذكر: تمشت فيها الملالة حتى ضجرت- الكذب لابسا بردة الصدق- الصدق مسربلا بالكذاب- القبح في نقاب جميل- تكحل يد المساء جفوني- تعانق أحلامه أهدابي- يقبل فم الصباح جبيني.


وبهذا نلاحظ إغراق الشاعر في الجانب التخييلي، من حيث إضفاؤه الحياة ومختلف الخصائص الإنسانيّة بما في ذلك الأحاسيس والمشاعر على عناصر الطبيعة، ويتناسب هذا المعطى مع التجربة الرومانسية عموماً التي احتفت احتفاءً خاصّاً بعالم الطبيعة، وجعلت منه الملاذ والعالم البديل لعالم النّاس.

ويمكن أن نضيف إلى الأمثلة السابقة التشبيهين الواردين في البيت الأخير (كالنسيم نمرح- كالجدول المنساب).
وقد ساهم أسلوب الطباق في التعبير عن تجربة الشاعر، حيث عكس من خلال الكلمات وأضدادها الصراع النفسي الذي يعانيه وهو ممزّق بين عالمين: عالم الطبيعة (القفر/ الغاب)، وعالم المدينة. ويمكن توضيح هذه الثنائيات الضديّة التي عكست هذه التجربة كالتالي: (الكذب ≠ الصدق/ القبح ≠ الحسن/ المدينة ≠ القفر/ العمران ≠ الغاب). ونسجّل أيضاً في النصّ هيمنة الجمل الخبريّة التي ساهمت في نقل تجربة الشاعر، خاصة الجمل الفعلية الماضية: (سئمت- ملت- تمشّت- هجرت- تركت- قضينا...). ولم يحضر من الأساليب الإنشائيّة إلا فعل الأمر (اخرُج- ولتعانق- وليعطر...). وكل هذه الصيغ حملت دلالة واحدة؛ هي حثّ الشاعر على هجران عالم المدينة ومعانقة عالم الطبيعة.

بناءً على التّحليل السابق، يتبيّن لنا أنّ هذا النصّ قد استطاع، إلى حدّ كبير، أن يعكس أهمّ الخصائص التي قام عليها الشعر الذاتي الرومانسي، حيث وجدنا الشاعر يعبّر عن أحاسيسه وانفعالاته الذاتية داعيا إلى الاندماج في عالم الغاب والطبيعة، والذي صوّره باعتباره نقيضا مطلقاً لعالم المدينة الزائف. وقد اتضح من خلال دراسة المعجم أن الشاعر يضفي كل الصفات المحمودة على عالم الغاب، وبالمقابل يلصق كل الصفات المذمومة كالكذب والنفاق والزيف بعالم المدينة، وقد جاءت الصورة الشعرية عاكسة لهذه النزعة الذاتية، مغرقة في التّخييل مقارنة مع التيار التقليدي المحافظ. وقد ساهمت الأساليب البلاغية كذلك؛ كالطباق، والجمل الخبريّة، وبعض الصيغ الإنشائية في نقل تجربة الشاعر بكل ما يختلج فيها من مشاعر الصراع والرفض والحب والكراهية.


وعلى العموم، يمكن القول إنّ هذه القصيدة من النماذج المعبّرة بعمق عن مضامين التيار الرومانسي، وعن خصائصه الفنيّة، مما يؤكّد ريادة جماعة "الرابطة القلمية"، التي ينتمي إليها الشاعر، في ترسيخ الاتجاه الذاتي الرومانسي في الشعر العربي الحديث.  


اِقرأ أيضاً :


تعليقات