پ

صورٌ تُشبِهُ الوجوهَ ووجوهٌ تسيلُ من المرايا

 صورٌ تُشبِهُ الوجوهَ ووجوهٌ تسيلُ من المرايا

رَحيم دَودي

صورٌ تُشبِهُ الوجوهَ ووجوهٌ تسيلُ من المرايا




كانَ "رائِي الأعشى" شابًا وسيمًا مَأخوذًا بوسامتهِ على نحوٍ ماحقٍ. وقد ازدادَ وَسَامةً بعدَ التحاقهِ -وهو في شرخِ الشّبابِ لا يزال- مُدَرِّسًا لـلّغةِ العربيّةِ بثانويةٍ تأهيليّةٍ جنوبَ البلدِ. تَبَدّت مظاهرُ الـنّعمةِ عليهِ بسرعةٍ. وتغيّرت حالـه من وَاقعِ الأحذيةِ الـمرقّعةِ إلى واقع الجزماتِ العالية وسراويل الجينز المدمُوغةِ بـماركاتٍ عالــميّةٍ مشهورةٍ، ومعاطفِ "بينتون" الموسُومة بـوصايا "إليفارو توسكاني" العظيمِ: بائع الصورِ في أزمنةِ تناسلِ الرغباتِ والالتذاذِ باستيهاماتٍ لا تني تلوبُ في دهاليزِ الـنّفسِ الخافيةِ.  

لم يكن يخرجُ من شـقّته، التي اكتراها في حَيّ الأنوار، إلا بعدَ برتوكولٍ عسكريٍّ صارمٍ. يأخذُ دُوشًا ساخنًا. يَحْلِقُ لحيته الشهباءَ وَفقَ مقتضياتِ الرّسومِ المعاصرةِ. يعطِّر جَسَدَهُ مركزاً على إِبطيه وعانتهِ. يغسلُ أَسْنَانَـه ثلاثَ مرّاتٍ قبلَ الإفطارِ ومرتينَ بعدَهُ. يرتدي ملابسَهُ بأناقةِ ديكٍ روميٍّ أَبْرَمَ مواعيدَ مع كلّ دجاجاتِ الـأرضِ. أما الإجراءُ الأخيرُ من البرتوكولِ فكانَ الوقوفَ ساعةً ونيف أمامَ المرآةِ ذاتِ الإطارِ النّحاسِ. وربّما امتدّ نظرهُ إلـى تفاصيلِ وجههِ زمنًا أطول: يصفّفُ شعرهُ الأشقرَ على طريقةِ "كازانوفا" العاشقِ. يرسمُ قوسَ الحاجبينِ بدقّةِ "ثيودور جيركو" حينَ يَسْتَغرقُهُ رَسْمُ غجريةٍ جالسة على حوافِ نهرِ "ناخيريلا".

يهجسُ بصوتٍ مبحوحٍ: "لابدّ أنـّي أتحدّرُ من نسلٍ مُنقرضٍ. فهذه الوسامةُ، قطعًا، ليست عاديةً. من منكنّ أيّتها الجميلاتُ تستطيعُ مقاومة هذا البهاءِ الــمُهرَقِ من أنساغِ اللازورد". يقهقه بصوتٍ متحيرٍ، ثم يدورُ حولَ نفسه بلا توقُّفٍ: "أنا وسيمٌ. أنا وسيمٌ. أنا أَوسَمُ شبَّانِ الأرضِ. أيّتها المرآةُ، من هو أوسمُ شابٍّ في الدّنيا؟ هيا تحدّثي، قولي الحقيقةَ، لا تخافي شيئًا! من هو الأكثرُ جمالًا وأناقةً. من هو الأشدّ فتنةً وغوايةً. من هو الأقدرُ على تهييج الإناث والــذّكور وإشعالِ حرائقهم وإلهابِ قلوبهم!!". يخيّل إليه، في هذه اللحظةِ، بضربٍ من التهيُّؤ اللاشعوري، أنّ المرآة تطأطئ زُجَاجتها مؤكّدةً: أنّه الوسامةُ متبديةً في جسدٍ إنسانيّ. تفترّ شفتاهُ عن ابتسامةٍ ملتويةٍ. ينحني وينطُّ. ينطّ وينحني. ينتصِبُ مُتشامخا. يستعدُّ، يتأهّب. يَعُدُّ من واحد إلى ثلاثة. ثمّ يهرولُ في ردهة الشقّــة بامتلاءٍ استهوائيٍّ محمومٍ. يلتقطُ محفظته السّوداءَ الملقاةَ أرضاً، يَضعها على ظهرهِ بحركةٍ رياضيةٍ تشي بالقوّة والمرونةِ. وينزلُ السلّم الحجريَّ وكلُّ عطورِ الـعالمِ تنضحُ من ملابسه وتفغرُ أنوفَ المدينةِ برمّتها.

نساءُ الحيّ معجباتٌ به. أستاذاتُ الثانوية يحوّمن حوله. منهنّ من اعترضن سبيلهُ داخلَ الثانوية أو خارجها. المتزوجاتُ منهنّ كنّ يتندّرن به، غيابًا، ويصفنه بالغرّ المراهق. وحين كنّ يلتقينه، حضوراً، كنّ يتودّدن إليه ممتدحاتٍ مُقَدِّمَاتٍ خِدْمَتَهُنَّ له على شفاهٍ تتحلّب شبقًا واشتهاءً. التلميذاتُ كنّ يتنافسن دراسةً وملبسًا ومكياجًا في سبيل نيلِ ابتسامةٍ يتأوّلنها، حسبَ مراهقتهنّ الطافحةِ التهابًا، ضُروبًا من الإعجابِ والحبِّ والاهتمامِ. و"رائي" يرى كلّ شيءٍ ولا يرى شيئًا. لا يقعُ بصرهُ على أنثى إلا لينتقل إلى أخرى. يبدأ مشروعَ ابتسامةٍ مع شقراء لينهيه، بعدَ مسارٍ طويلٍ، مع سمراء مرّت بجنبه واحتكّت به عمدًا. يصلُ حجرةَ الدرسِ مُشبعًا بالوجوهِ والابتساماتِ. مكتظًا بالمجاملات والتحرُّشات. مستثارًا جسدًا ونصًا. يضعُ محفظته السّوداء على المكتبِ. يخرجُ أوراقَ اعتمادهِ أستاذًا من لدن وزارة التربيّة والتّعليم، يرتّبها، ينضّدها، ينفضها، ثمّ يستلّ من عمقها وريقةً صغيرةً ويقول: "اليوم، اليوم، نعم اليوم، سنقرأ قصيدةً؛ قصيدةً من عيون الشّعر الإنسانــيّ، قصيدةً كتبها شاعرٌ، يحوي قَلْبُه ألفَ شاعرٍ، سنقرأ قصيدة "إنّــي خيّرتك فاختاري" لـلعظيم نزار قبّاني؛ أي نعم، "نزار قبّاني" العاشقُ المناضل النابضُ بكلّ إحساساتِ العالـم صفاءً...". تترامحُ الابتساماتُ على وجوهِ التلميذاتِ، يتغامزنَ في خفرٍ وتمايعٍ: "من سيختارُ "رائي" لليالي عشقه السابي وقوافي أشعاره الـمسفوكة من عسلِ الـجنّةِ". تُطبطب "رانية" على مؤخّرتها المكتنزةِ وتقول بصوتٍ متشقّقٍ: "صاحبة الجلالةِ؛ هذه البيضاءُ المشقوقةُ، المتوفّزةُ، الغضّةُ، الطّريةُ، ستنسفُ عقلَ الوسيمِ الشريدِ، وستقتادهُ، طائعا، إلى مواطنِ الــلّذة والجنونِ والانتشاءِ. سيكونُ من نصيبي يا فتيات. وسأعلّمه فنّ العشقِ؛ فنّ التعرّي أمام الشّمس والبحر". تَرْتَفِعُ ضَحَكَاتُ الــتلميذاتِ عاليًا. يرتجُّ القسمُ وسطَ صمتِ المؤسّسة. يتظاهرُ "رائـي" بعدم الفهمِ ويلتزمُ حيادَ الملمحِ وفراغ النّظرة.

وسرعانَ ما تردّ "ناظرةٌ" على "رانية" بلهجةٍ ماكرةِ النّبر: "هذا إذا كانَ لــلوسيم حلزونٌ ينتعظ وينتصبُ. أشكّ في كونه رجلاً. يكفي أن تنظرن إلى سراويله الملتصقة على مؤخرته. حاولتُ، مرارًا، استقراءَ ما يوجدُ خلفَ فُتْحَةِ المقدّمة فلم يظهر لي إلا جرحٌ عموديٌّ شبيهٌ بجرحي. على خلافِ "ذاكر الشّدة"، أستاذ التربيّة البدنية، تبدو خيزرانته منقذفةً إلى الخارجِ في تحدٍّ صريحٍ لقانون الجاذبيّة". انفجرَ القسمُ، مرةً أخرى، ضحكًا وقهقهةً. ضحكَ الذكور -الذين لا تكادُ تبصرهم بحُكمِ قانون المنافسة النسويّ- حتى ماعت بطونهم. ضحكت "ناظرة" وصديقتها العزيزات حتى اهتزّت السّبورة. أشاحت "رانية" ومناصراتها نَظَرَهُنَّ وكأنّ شيئًا لم يحدث. وقفَ "رائي" وعيناه تدورانِ كحرباءٍ تبحثُ عن صغارها. جاهدَ اِستعادة رابطة جأشه. استوى واقفاً  كتمثالٍ رومانيّ، ثم اندفعَ بصدره إلى الأمامَ مُتشاعرًا:
"إنـــي خيّرتُكِ فاختاري
ما بين الموت على صدري
أو فوقَ دفاترِ أشعاري
فاختاري الحبّ أو لا حبّ
فجرمٌ ألا تختاري                           
لا توجدُ منطقة وسطى ما بين الجـــنّة والنارِ".  
              
وبينما "رائي" مُنْغَمِسٌ في عوالم الكلماتِ المتفصّدة شعراً، قاطعتهُ "ناظرة" صارخةً بكلّ ما تختزنهُ حبالها الصوتيّة من قوةٍ: ألا توجدُ قصائدُ أخرى أشدّ جمالاً وأكثر دلالةً أستاذ!! ألا يوجدُ شعراءُ آخرون عبّروا عن الجمالِ والجوهر الأنثوي بعيداً عن الثنائيات الـمُخصية والمختزلة لثراءِ الوجود!! ألم تقرأ لــ"هدرلين"، و"الــسياب"، و"بوشكين"، و"فيكتور هيغو"، و"محمود درويش"!! منذُ بدايةِ السّنة ونحنُ نسمعُ القصيدةَ نفسَها، بالصوتِ نفسه، والــمعنى عينه، دونَ أن نضيفَ إلى معرفتنا شيئًا. ماذا يقول هذا الــمجنون، الذي قتلتَ قصيدته ترديداً واستنفدت ممكناتها الرمزية: اختاري أو لا تختاري. جـنّتي أو ناري. حبّي أو كراهيتي. يا أستاذ أَعْطِنا حلاً ثالثا كما تقول أستاذة اللغة الفرنسية. أُخرج من دوائركَ السجّانة وانفلت من ربقة الحسيّة البكماء. أنت لا ترى شيئا يا "رائي". ومتى كانت وزارتنا تهتمّ بالأساتذة الذين يرونَ، فبله ينظرون. بالأساتذة الــذين يقرأون؛ فبله يفهمون، ويبدعون. الذين يسافرونَ بكَ إلى أكوانٍ شاهقةٍ جداً. يعلمونك كيف تفكّر، كيف تحيا، كيف تتصور العالم على طريقتكَ يا مُعــلّم. لا كيفَ تتقيأ، يوم الامتحانِ، ما حفظته من هُرَاءٍ وخطرفاتٍ وأراجيفَ...".

كانَ "رائي" يقفُ مُبحلقًا فاقداً بوصلة الفهمِ والإدراكِ. تلميذات وتلاميذ القسم كانوا يعرفون أنّ "ناظرة"، على الرّغم من طَبْعها الخشن ولسانها السّليط، تمتلكُ رؤيةً نفّاذةً إلى الظواهر ونظرةً عميقةً إلى الأشياء. ويؤوبُ هذا إلى مقروئها الكبير والمتنوّع، وفطنتها اللاهبة، وذاكرتها المتوقّدة. دائمًا ما كانت أستاذة اللغة الـفرنسيّــة تخبرها بكونها أكبر من سنّها وأفضل من بعضِ أساتذتها. لهذا كانت تُنيط بها مَهمة إفهامَ زميلاتها وزملائها في القسم قواعدَ النّحو الفرنسيّ كتوظيفٍ عالِــمٍ لبيداغوجيا القرينِ. وكانت "ناظرةٌ"، دوماً، تنجح في هذه الـمَهمّةِ.
لم يَحد "رَائي" عن مكانه. كانت قــوّته كَامِنَةً في وسامته. فإذَا فَقَدَتْ فاعليتها؛ رأيتَهُ مرتبكاً، متحيراً، محمرّ الوجه مختنقَهُ. سَيطَرَتُـه على القِسْمِ، كما كانت تردّد "ناظرة" بذكاءٍ لاذعٍ، مردُّها تعطيله الرصدَ العقليّ لهناتهِ من خلال استنفارِ انفعالات المعجباتِ وأهوائهنّ. الكلّ ينظرُ إليه. خمسون عينًا ترشقه من كلّ الجهات. عاجزاً عن الردّ كانَ يقفُ. اعتراهُ إحساسُ تأنيبٍ داخليّ فغمغم في ظلمة نفسه نابسًا بارتباكٍ: "لِــمَ لـمْ أشترِ كُتبًا أُثقّف بها نفسي. أعزّز بمكنوناتها معرفتي. أعضد بمددها العلميّ كفاءتي. ماذا كنتُ أفعلُ طوالَ هذا الوقت!!".

انتهت الحصّة كما تنتهي حصصُ "رائي" دَائِمًا. عويلٌ وصراخٌ ومناغشةٌ ومماحكةٌ وتحرّشٌ واستخفافٌ واحتقارٌ. حملَ "رائِي" محفظته وانصرف قبل الوقت القـانونـيّ بعشرين دقيقةً. في طريق إيــابه مرّ بمكتبة الأمّة فلم يكترث بها. عاج على مكتبة البلد فلم يهتمّ بالكتبِ المعروضةِ على رافعاتِ الخشبِ المصقولةِ بفنيةٍ منقطعةِ النّظيرِ. حَاذى، في المنعطف الأَخير الـمُفضي إلى حييه، مكتبةَ الشّعب فأشاح بَصره بعيدًا. وهو نائسٌ بين حدودٍ حسيّةٍ مختلطةٍ، متداخلةٍ، ومتوالجةٍ، تراءى له محل بيعِ سراويل إيطالية. بُدَاءَةً، تغيّرت تقاطيعُ الوجهِ، ثانيًا، انفرجت أساريرهُ، تاليًا، طفحَ وجهه بسعادةٍ غامرةٍ فركض نحو المحلّ كمن وجدَ عينَ ماءٍ في بيداءٍ تنادمُ السّراب في نهارات الصيفِ القائظة. طفقَ يقلّب السراويل متثبتًا من قياساتها، مُفَاضِلًا بين ألوانـِها، متأكّداً من دمغةِ ماركاتها، متحقّقا من دقة الخياطة وسَلامة الثوب. والحقّ يقال: إنّ "رائي" كانَ يمتلك درايةً استثنائيّةً بعلوم الثوبِ وتعاليم الـماركات، كما وردت في مصنفاتِ الموضةِ إقرارًا للتمايزِ بينَ الناسِ ومفاضلةً بينهم؛ مذ المفاضلةُ بين الأنام، في أزمنة الإشهار والاستهلاك، مُستندةٌ إلى المظاهر لا المعارف والقيم.   
          
دَلَفَ إلى منزلهِ مثقلًا بأكياسٍ ملوّنة تتجشأ سراويلَ وأقمصةً وجواربَ. أحسَّ أنّ متانته ممتلئةٌ فدخلَ المرحاضَ. جلسَ على الحوضِ دَالِقًا سوائلهُ بارتياحٍ عميقٍ. رفعَ بصرهُ فَوَقَعَ على المرآة ذاتِ الإطارِ النّحاس. ولى وجهه شطر الحائط المقابل. فُوجئ. ذُهل. صُدم. ارتعدَ. كانتْ هناكَ مرآةٌ تناظر مرآةَ النّحاس؛ لم يشهد تاريخه، قطّ، أنه ثبّتها هناك. رفع وجهه إلى السّقف. أطلّت عليه مرآةٌ تشبه المرآةَ التي تشبه المرآةَ. استحال المرحاضُ مرايا تتناسلُ دوائرَ في قلب دوائر وانعكاساتٍ تتخلّقُ على سطح انعكاسات سابقةٍ.

 وقف "رائي" مبهوتًــا مشدوهًـا. كانَ وجههُ يتبدّى قبيحًا، دميمًا، مرقّعًا، شائِهًا. جَحَظَت عيناه. اتسعتا على مساحةٍ أكبرَ. صَار بياضُهما سوادًا. أَضْحَى سوادُهما بياضًا. سالتا في الفراغِ الـمختنقِ بـهيولى الأشكالِ والأحجامِ. طالعته آلافُ الوجوهُ وهي تتناسخُ داخلَ دواماتٍ تتوالد بشكلٍ سرطانيٍّ رهيبٍ. وجهٌ وسيمٌ. وجهٌ قبيحٌ. وجهٌ أليفٌ. وجهٌ غريبٌ. وجهٌ بريءٌ. وجهٌ مخادعٌ. وجهٌ مرسومٌ. وجهٌ ممسوحٌ. وجهٌ صادقٌ. وجهٌ كاذبٌ. وجهٌ صريحٌ. وجهٌ مخاتلٌ. وجٌه راسخٌ. وجهٌ عابرٌ. وجهٌ. وجهٌ. وجهٌ. وجهٌ. وجهٌ. وجوهٌ تلتفّ حول نفسها. حول بعضها. تذوبُ في وجهٍ واحدٍ. تـمّحي ثم تظهرُ. تتفجّر إلى آلاف الشّظايا ثم تأتلفُ بشكلٍ اعتباطيّ مُشكّلةً وجهًا "فرنكشتاينيًّا". اندكّت أركان "رائي" على نحو فظيعٍ. انتابهُ خوفٌ قاتلٌ. فقدَ الإحساسَ بالوجودِ المرجعيّ. هُدَّت المادّة وانتفت أبعادها الصُّلبة. اتخذت المرايا شكلَ حروفٍ تلتصقُ بسرعةٍ ثم تتشتّت. تلتصقُ ثم تتطايرُ. تنتظمُ ثمّ تتفرقعُ. فجأةً نطقت المرايا بصوتٍ واحدٍ: "انظر هي ذي وجوهكَ كلُّها. صوركَ جميعُها. فتأكّد من حقيقتها. المسها. قبّلها. احتضنها. واحملها معكَ حيثُ تمضي، فلتسكنكَ ولتسكنها...". اكتملَ المعنى في ذهن الرائي فأضْحَى ناظراً. كانت نظراتُـه خناجرَ صدئةً، مثلّمة، وسَامَّةً أيضاً...

 غشّى الفضاءَ صمتٌ ثقيلٌ. صار الحضورُ غياباً. آلَ الغيابُ إلى غياباتٍ أشدّ استفحالاً وحلكةً. وحدها قطعةُ زجاجٍ تشبهُ خنجراً صدِئًا كانت ساقطةً أرضاً ينزُّ منها سائلٌ أحمرُ يشبهُ الدّم...
 
تعليقات