وجهٌ مائعٌ يسيلُ من صُورتِه
لــهُ في الحدّ الفاصلِ بينِ المنزلِ وسيارته المركونةِ على بُعْدِ تسعةِ أمتارٍ قانونٌ ثابتٌ. تراهُ يتجهُ، بلهوجةٍ، نحو السّيارة، مُتَأَبّطاً محفظتهُ الجلدية، يبحثُ في جيبهِ عن مفتاحِ التّشغيل. لا يجده طبعاً. يدورُ في مكانهِ عشرينَ دورةً. بعدَها، يبدأ تأرجحُ بندول ساعةِ المدينة المشهور. ينوسُ الرجلُ المعتدّ بذاتهِ بينَ الأمتار التسعةِ على نحوٍ فوضويٍّ. يدوّخ المكانَ وأهله. الجيرانُ الذين يتاخمون مسكنه رحلوا. ممالكُ النملِ البانية حضارتَها على حوافِ الــممرّ الواصل بين المنزل والطريق هاجرت. الطيورُ التي تعشّش في أشجارِ الحديقة طارت إلى غيرِ رجعةٍ. أما القطط الضّالة وعدوتُها الكلابُ فبحثت عن مزابلَ بعيدةٍ أقلّ كرماً وأكثرَ هدوءاً.
لا يجدُ المفتاحَ إلا بعدَ ركضٍ وقفزٍ ونفخٍ وضخٍ وعواءٍ وفحيحٍ. حينَ يجدهُ يمسكه بطرفيْ أُنملتيه ناظراً إليهِ كصرصور يتملى مؤخرة أنثاه. يحاولُ إدخالَ المفتاحِ في ثقبِ الـمُشَغِّل أربعَ مراتٍ؛ يكتشفُ أنّه يمسكهُ مقلوباً.
وصلَ إلى الكلية مُــتَأخراً ساعةً ونيف. حثَّ الخطى صوبَ قاعةِ المحاضرةِ باعتدادِ جنرالٍ انتصر في حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ. في كلّ خطوةٍ كان يستشعرُ فرادَة معدنه الأصيل وندرتَه: إنسانٌ قُدَّ من سماءٍ يمشي على أرضِ الخاسئين الخاسرين. عندما أدركَ بابَ القاعةِ فَتَحَهُ على نحوٍ مفاجئٍ، مباغتٍ، وصاعقٍ؛ كمحققٍ يبحثُ عن مجرمٍ متلبّسٍ بالجرمِ الــمشهودِ. ألفى كلّ طالبٍ جالسًا على مقعدهِ منهمكًا في إنجازِ بحثٍ أو قراءةِ كتابٍ أو تدقيقِ نصٍّ ما. لم يلقِ السّلامَ كعادته. أطلّ عليهم من علٍ كنعامة ترقبُ شعبَ فئرانٍ يرقصُ عندَ قائمتيها. ثم صدعَ بصوتٍ متهدّجٍ: "البحثُ العلميّ يقتضي الانضباطَ والمواظبةَ والمثابرةَ. وهذا ما ينقصكم. أكلّما وليتُ وَجْهِي شطرَ أحدكم وجدته يقرأ كتاباً تافهًا أو ينجزُ بحثًا مستهلكًا أو يلحنُ لفظًا وحرفًا!! هيا ازيحوا عنكم هذا الخراءَ النظريّ وخُذوا أقلامكم". وبينما هو يوبّخ هذا ويقرّع ذاك، طرقَ أحدهم البابَ بأدبٍ. اهتاجَ الدكتور "نائـي" واستشاط غضباً. فتحَ البابَ. وجدَ طالبتهُ "نبيهة العالي"، واقفةً في وجلٍ وخوفٍ، فصرخَ: "ألا تعرفين قيمة الوقتِ!! ما هذا الاستهتار بالعلم وأهله! لقد كنتُ في لحظة فيضٍ روحيّ فقطعتِ عليّ سيل الإلهامِ، هيا اغربي عن وجهي". لم تتحمّل "نبيهة" صُرَاخَ الأستاذ المجنون، فردّت بصوتٍ كتيمٍ جريحٍ: "لقد جئتُ قبلكَ أستاذي المقتدر. أُنظر إلى المقعد الخامس يساراً، تلكَ محفظتي، وذاكَ دَفتري. فَلِمَ تثور ثائرتكَ دونَ تفكيرٍ!! بَاغَتَتْنِي الدورةُ الشهريّة على حين غرّة فذهبت إلى المرحاضِ، أليسَ هذا حقيَ البيولوجي؟". كان "نــائي" ينظرُ إليها بوجهٍ اختلطت انفعالاتهُ، وعينين يدورُ سوادهما كنقطتين ملتفّتين في الفراغِ. كنا نرمقه خلسةً حتى لا يقتنصَ أحدنا فينقلَ غضبه من مغضوبٍ عليه أوّل إلى مغضوبٍ عليهم لا حصر لهم.
حينَ رست حركة انفعالاته الدّاخليةِ. ربّت على كتفِ الطالبة وَأَمَرَهَا بالاتجاه صوبَ مَقْعَدِها، مُدعيًا أنّه يتفهّم الأمرَ؛ بَيد أنّ التزامهُ العملَ العلميَّ بدقةٍ وحبٍ هو سبب صرامته المفرطة حتى مع نفسه. وما هي إلا هنيهاتٌ قليلاتٌ حتى ثارَ في وجهِ الطّالبة من جديدٍ: "إيــاكِ والقول، مرّة أخرى، إنّك جئت قبلي. ما من أحدٍ يأتي قبلي. كثرةُ التزاماتي الإداريّة والعلميّة تقف حائلاً دونَ القدوم في الوقت المحدّد. لكن ينبغي أن تعلموا أن خمس دقائقَ من حصّتي تساوي ساعاتٍ من شرحِ الأساتذةِ الآخرين. إنَّ منهجي يقوم على التكثيف والاعتصار المعرفيّ والتنظيم العالي جداً. وهذا منهجٌ لم يدركهُ قبلي إلا "كارل بوبر" و"توماس كون" و"إمري لا كاتوش" وغيرهم قليل جداً". كانت وجوه الطلبة، آن هذر "نائي"، عبارةً عن علامةِ تعجُّب عملاقةٍ سقطت نقطتها في قعر البحر.
عادَ "نــائي" إلى محاضرته، بعدَ سلسلة الانفجارات والانشطارات والانقطاعات، آمراً إيانا بكتابةِ ما سيميله من لوامع فكرٍ وقّادٍ. طفق يملي كعَدّاءٍ جامايكي يُسابق الريح. كانت الجمل تتطايرُ من فمه صواريخَ وقنابلَ. بعدَ خمس عشرة دقيقة من الإملاءِ، امتلأت خمسُ ورقاتٍ، حبراً، عن ظهر قلبٍ. حدّق إلينا بافتخارٍ وقال: "أنظروا كم كتبتم في ظرف خمس عشرة دقيقة من علمٍ عميمٍ وفكرٍ تليدٍ. أخبرتكم أنّ خمس دقائق من حصّتي تُنَاظرُ ساعاتٍ وساعاتٍ لـدى غيري. واجبكم المنزلي الآن أن تقرؤوا ما دبّجتم من وحييَ المعرفيّ، وأنْ تستغوروا كثافتهُ الرمزية باعتمادِ الفيزياء والسميائيات والنظريّــة اللغويّــة العربيّة والهنديّــة القديمتين".
لم يفهم الطلبة علاقة الفيزياء والسمياء والهنود والعرب بما أُمليَ عليهم قبلَ قليلٍ. كان موضوع الإملاء "السارد في مقامات الهمداني"، فمَا علاقة كلّ ذلك بالفيزياء والنووي وريشة الهنديّ الأحمر؟ سأله أحد الطلبةِ عن كونهم -بحكم تخصصهم الأدبيّ- لم يدرسوا الفيزياء قطُّ. كما أنّ أساتذة الكلية لم يُقدّموا محاضراتٍ في السّميائيات والنّظريّة اللغويّة العربيّة والهنديّة، فكيف لهم أن يستشفوا العلاقة الخفية بين ساردٍ مخاتلٍ يركضُ في نصوص الهمداني وبين علومٍ لم يتعرفوها، فبله يفقهوها...
نظرَ إليهم "نــائي" نظرةً لو تحولت إلى لكماتٍ لسقطَ نصفُ سكان الأرضِ صرعى يُقلِّبون بعدَ يمينهم شمالا. ثم اشتعلَ هَذْرًا: "لا يقتضي العلم منا أن نتعرّفه، بالضرورة، من خلال القراءة والمعاقرة لساعات طويلةٍ. أيها الجهلة يكفي الحدسُ لنفهم كلّ علوم الدّنيا. فأنا مثلاً أستطيع معرفة حالة الجو استنادًا إلى حركة ذيل كلبي. وأعرفُ مواضع أغراضي في المنزل باعتماد الوعي الكونيّ وحركات النجوم والكواكب. وبمكنتي، كذلك، أن أقودُ سيارتي دونَ حاجة إلى مفتاحٍ أو مقودٍ...". كانت وجوهُ الطلبةِ عبارةً عن علبِ سردين بَعجتها شاحنة نقل البضائع. وكان "نـــائي"، في هذه اللحظة، يقفُ مُتطاوسًا مُستغربًا صِغر عقول طلبته الذين يعجزونَ عن فهمه. وبينما هم شَاردون سَادرون في مراتعِ العَجب والغَرابة والذّهول، سُمعَ طرقٌ قويٌّ على البابِ. احتدّ النــائي في مبتدإ الأمر، لكن حين تناهى إلى سمعه صوت عميد الكلية مختلطاً بأصواتِ رجالٍ آخرين فتحَ البابَ صاغراً، مُنحنياً، مُسلّمًا، مُرحبًا، مُتواضعًا على نحوٍ مُذل، فاخترقته كلماتُ العميدِ خانقة صادمة:
"لقد حضرت الشرطة، يقول المفتش إنهم وجدوا امرأة مسحولة،ً على الطريق المفضي من منزلك إلى الكلية، ودَمها يلطّخُ مقدّمة سيارتك"!