السّائرون فوقَ صورهم - رَحيم دَودِي

 

السّائرون فوقَ صورهم - رَحيم دَودِي


السّائرون فوقَ صورهم - رَحيم دَودِي




 "ضابطُ القَاضي" مدير إدارةٍ تربويّة شديد الصّرامة. يأتي إلى مقرّ العمل قبلَ مرؤوسيه. ينظّمُ مكتبه بهمّة عاليةٍ. ينفضُ وَهْمَ الغبار عن الملفّات والتّقارير بخفّة جناحِ دُورِيٍّ يقتنصُ حبّة قمحٍ من نظرة قبّرة ساخطةٍ. يفتحُ نافذةَ المكتبِ متطلّعاً إلى يومِ عملٍ منتجٍ وجادٍ. كلّ شيء في مذهبهِ الإداريّ مبني على الدّقة والصّرامة وناجعة التّنفيذ؛ لهذا، لم يكن يتساهلُ مع كلّ متقاعسٍ أو مستهترٍ عن تأدية واجباته؛ سواءٌ أكانَ معلِّمًا أو متعلِّمًا؛ بل إنّـه لم يكن يتساهلُ مع نَفْسِه حتّى. ففي الاجتماعاتِ الإداريّة والتربويّة كانَ يبدأُ بتقويم عملهِ ونقدهِ قبل أنْ يُقوِّم عملَ الآخرين. لم يكن نَقْدُهُ ضرباً من عصفِ الملامَاتِ أو نَــدْباً مرضياً يشفُّ عن قصورٍ في الفهم والاشتغالِ؛ وإنّــما كانَ عَرْضاً غايتهُ المشاركةُ والبحثُ عن حلولٍ عَمَلِـــيّةٍ للارتقاء بالممارسة المهنيّة تنظيرًا وتطبيقًا.

كانَ نفرٌ من المعلمين والموظّفين بالمؤسّسة يتأوَّلون أفعاله بحسبانها اضطراباً نفسيًّا مرضيًّا؛ حالةً من "الانفصامِ الشِّزُيدِي". جمحتْ نزعةُ التّحليل النفسيّ ببضعهم فقال: إنّ المدير يرزحُ تحتَ نيرِ عُقدةٍ تُدعى بالمازوسادية؛ فهو يلتذُّ، خِفيةً وعَلنًا، بتعذيب ذاتهِ وتقريعها عن كلّ تقصيرٍ أو خمول، ويستمتعُ، أيضًا، بمعاقبةِ موظفيه عبر استفساراتٍ تافهةٍ سَبَبُهَا تأخّرات مقدارها خمسُ أو عشرُ دقائق فقط، أو عبر توبيخهم، بغلظةٍ، مفرطةٍ تتحوّل، أحيانًــا، إلى إنذاراتٍ كتابيةٍ مُهَدِّدة، أو معاركَ ضارية تُسفر عن قدوم لجانِ تفتيشٍ جهويـّـة وتقاريرَ ومجالس تأديبٍ... 

كانت كلّ الوجوه مُتَشَابهةً في مرآة ذهنه. لا يفرّق بين صغيرٍ أو كبيرٍ، بين معلّمٍ أو متعلمٍ، بين وليّ أمرٍ أو قائدِ مُقَاطَعَةٍ حضرية. المشْتَرَكُ بين كلّ الوجوه، في تصوّره، انضباطُهَا للقواعد والقوانين. عندما تنظر إليه، ترى عينين من زجاج، تَــرْتَطِمُ بهما المرئيات وتسقط تواً في حيزِ الانضباط. كان يرى دون كثافةِ المعنى ودفء العاطفة الإنسانيّة. وهذا هو العيب الوحيد الذي آخذه به لفيفٌ من المعلِّمين المشهود لهم بالاقتدارِ والكفاءةِ.

ذات مرّة نُميَ إلى المدير أنّ حفنةً من المعلّمين يقولون عنه إنّــه سيموت واقفًا، كشجرةِ الكينا، وهو يراقبُ نقاطًا صغيرةً تتأرجحُ في الفراغ. في اليوم الموالي وَقف منتظرًا أمام باب المؤسّسة. حين وصلت حفنةُ النّمامين، نظر إليهم نظرةً لو استحالتْ  رصاصاتٍ لخروا أرضًا في رمشةِ عينٍ، ثم باغتهم بصوتٍ حادٍ: "سأمُوت نــاظرًا إليكم والـمنيةُ تزحفُ عبرَ أجسادكم وتستشري في عُقولكم التّالفةِ الـعاطلةِ. سأنظّم، يومَها؛ يومَ موتكم، بفرحٍ غامرٍ، نشاطًا تربويًّا عن النّميمة والغيبة. تريدون مَوتي!! أعرفُ لِـمَ تتمنّونَ ذلك.  لتطمئن قلوبكم السّوداءُ، لن أموت إلا بعد أن أدفنكم جميعًا...". وقفَ المعــلّمونَ يُبَحلقونَ في بعضهم بعض، وصوتُ طرقعةِ جزمةِ المديرِ يتعالى بانتظامٍ مُتَشَفٍ. بُداءةً، تساءلوا، في دواخلهم، من يكونُ الواشِي. ما قيلَ لم يتجاوز حدودَ أربعتهم. كيفَ تناهى كلامهم بحذافيره إلـى المدير!؟ بَعْدَها، اعتراهم الارتيابُ والشكُّ في بعضهم بعض: شكّ "عاطلٌ" في "مُسَرنمٍ"، شكّ "مسرنمٌ" في "عاطلٍ"، شكّ "تائهٌ" في "واشٍ"، لــم يشك "واشٍ" في أحدٍ من زملائه، فَنَدَهَ بنبرٍ متخافتٍ منطفئٍ: "من، من، من، من أوصل منكم الخبزَ إلى الفرنِ؟ العلاقةُ بيننا أسُّها الصدقُ والأمانةُ. عيبٌ على الواشي الوشايةُ بأصدقاءِ الخبزِ والـملحِ" حدّق الثلاثةُ إلــى "واشٍ" مُطرقينَ رؤوسهم أرضًا، متّفقين، فِكْراً، هَاجسين في البُعد الغائب من النّفس: "أنت يا ابن المسخِ، تبيعُ القردَ وتضحكَ على من اشتراهُ. انتظر سنحرقُ ملفاتِكَ معَ "ضابط القاضي" يا ابنَ الكلب...". قائلين، في البُعد المرئيّ، بصوتٍ جهوريّ: "إِنّنا براءٌ من تهمةِ الــوشايةِ. لا بدّ أن أحدًا كان يتلصّص علينا آنَ مناقشتنا الموضوعَ، فاسترقَ الخبرَ وأوصلهُ طازجًا إلى المدير". طأطأ "واشٍ" رأسهُ متظارفًا دلالةَ موافقتهم الرأي. حثّوا الخطى، بقلوبٍ تتذابحُ أوصالُــها مكرًا وخديعةً، صوبَ ساحةِ المؤسّسة لــتأدية النشيدِ الوطنيّ بحبٍّ وصدقٍ.

في وسطِ السّاحةِ، قربَ عمودِ الـعَلَمِ الوطنيّ، كان الـمديرُ يتحرّكُ منظِّما صفوفَ المتعلِّمينَ، بشكلٍ عمودّي؛ مكوّنٍ من فردينِ يقفانِ على خطٍّ محدّدٍ. لـم يُغفل المديرُ حثَّ المعلمينَ -الذي كانوا، في هذه الأَثناءِ، يقفونَ بعشوائيّةٍ مُتغامزين مُتضاحكين، في إهمالٍ سافرٍ للواجبِ الوطنيّ- على الوقوف عندَ الحيّز المخصّص لهم، والتزام المسؤوليّةِ الـمهنيّة والوطنيّة وإلا عَرَّضوا أنفسهم لـلمُساءلة القانونيّة؛ فقد أعذر من أنذر. وكلّ عنزةٍ، بحسبِ تعبيره، تُعلَّق من قوائمها.

انطلقَ الإنشادُ الوطنيّ بصوتٍ واحدٍ متناغمٍ. كانَ "ضابطٌ" مأخوذًا بالكلّمات الطّالعة من أعماقِ المتعلِّمات والمتعلمين، مُنخرطًا معهم، بكلِّ قوةٍ، في الإنشادِ الحماسيّ الملحميّ. كانَ يؤمن أنّ المسؤوليةَ الملقاةَ على كاهله كبيرةٌ جدًا. فَلَمْ يَكُن، نتيجة هذا الإيمان الرّاسخِ، يتورّعُ عن بذل قُصَارى جَهْدِهِ لــتنميّة مَردوديته الذاتيّة ومردوديّة الفاعلين التربويين الذين يشتغلون معه؛ غايتُه الأخيرةُ دفعُ مؤسّسته نحو أفقٍ إنتاجيّ رفيعٍ، استثنائيٍّ، وعالٍ جدًا...

انتهى النشيدُ الوطنيُّ بولوجِ المعلّمِين قاعاتِ الدّرسِ رُفْقَةَ مُتَعَلِّميهم ومتعلِّماتهم. كان "ضابطٌ"، في هذه اللّحظةِ، يتأكّد، بسرعةٍ، قبلَ ولوج المعلّمين القاعاتِ، من نظافتها وتهويتها الجيدة، وتوفُّرها على الوسائلِ الديداكتيكيّة اللازمةِ للعمليّة التّعليميّة التعلُّميّة. وفي الثّانِية التي همّ بها الدّخول إلى القاعة الثامنةِ، خرجت تلميذةٌ، مهرولةً، وألقتْ نَفْسَهَا من الطّابقِ الثاني. اهتزّ هدوءُ الـمؤسّسة. تراكضَ المتعلِّمون في كلّ الاتجاهاتِ. بعضُ المتعلماتِ أُغمِيَ عليهنَّ. بعضهنَّ كنَّ ينتحبن بحزنٍ ممضٍ. نخبةٌ من المعلّمين الغيورين الصادقين هاتفوا الإسعافَ للقدومِ بسرعةٍ، وهُرعوا صوبَ الجثة الهامدةِ يتفحّصون نوابضَ الحياةِ في نياط قلبها. أمّا "ضابطٌ" فكانَ يقفُ ذاهلاً، مصدومًا، من هولِ الحدثِ الطارئ. وقبالته يقفُ الأربعةُ التّالفةُ عقولهم بعيونٍ مُتَّهِمَةٍ مُتَشَفّيةٍ. وسرعانَ ما ابتدرَ "عاطلٌ" راشقًا عدوَّه:" ماذا فعلتَ لها يا "ضبطوط" حتى انتحرت المسكينة على هذا النّحو الفظيع؟؟". أردفَ "مسرنـمٌ" بنبرٍ متحاملٍ: "أخبرتكم أنّ السّيد المدير كائنٌ لعوبٌ عربيدٌ، ويتخفّى خلفَ مظهر الصرامةِ الزّائدة مُواريا سوءته المقيتة الدنيئة. لـِـمَ مزقت نهدية الطفلة الصغيرة وتحرّشت بها؟". ولم يَـؤْلُ واشٍ جهدًا في سبيل إغراقِ سفينة المدير، فَطَعَنَهُ طعناتٍ، رَأبت، أولًا، الصّدعَ الذي شرخَ عَلاقة الأربعة، صباحاً، أمام بابِ المؤسّسة، ومزّق، تاليًا، قلبَ المديرِ: " أيّها المتحرّش المقرف. حَتّامَ تستمرُّ في مروقكَ وشرودكَ. جسدٌ متقيحٌ بالغرائز يفتكُ طفلةً في سنّ الزّهور. عليكَ اللعنةُ إلى يومِ الدّين. تُفٍ على سُلالتكَ يا ابن الكلبِ. فلتتفسّخ الآن وأنت تنظر إلى جثتك تنغلُها الدّيدان وتنخرها الجرذان في السّجن...". انتصبَ "ضابطٌ" ماسحًا بصاقَ "واشٍ" المنزلقِ من الوجهِ إلى ياقة القميصِ. رَشَقَهم بنظرةٍ ملتهبةٍ. ثم تدحرجَ نازلاً عبر سُلَّمِ الرخامِ إلى الطابقِ الأرضيّ وإوزُّ قَلْبه يخفق بأجنحةٍ من حديدٍ.

التحقَ المديرُ بموقعِ السّقوطِ. اقتربَ من دائرة الفاجعة. وجدَ المعلم "نبيهًا" يُطمئن المتعلّمين ويدعوهم لولوج قاعاتِ الدّرس. سأله المدير عن حالِ التلميذة. فأخبرهُ "نبيهٌ" أنّ أغصانَ شجرةِ الكينا، لحسن الحظّ، اعترضتها، آنَ السّقوطِ، فخفّفت من شدّة الاصطدامِ، الذي كانَ، لعشبِ الأرضيّة، دورٌ بالغٌ، أيضاً، في تلطيفِه. لم يفهم الـمدير،ـ في مبتدإ الأمر، ما كان يقوله "نبيه"، فأعاد سؤاله بصيغةٍ أُخرى: "ألم تمت المسكينة؟ أهي حيةٌ ترزق؟ أهي معنا هنا؟". أجابه المعلّم مطمئنًا، مربّتًا، مؤكّدًا أنّ أستاذَ التربيّة البدنية بصدَدِ رعايتها ريثما تأتي سيارة الإسعافِ، وهو يقول إنّها حيةٌ ترزقُ بَيد أنّ كسرًا، ربّما، أصابَ وركها ويدها اليُسرى. تنفّس الــمدير الصّعداءَ ونظرَ إلى السّماء...

نُقِلت التلميذةُ الـمُصَابةُ إلى المستشفى. فُحِصَتْ فحصًا شاملًا. تكّلفَ المدير بمصاريف الفحصِ والعلاجِ بصرفِ النّظرِ عن التّأمين المدرسيّ. كانَ هـمُّه أنْ تُشفى المريضةُ. وأن تعودَ إلى المدرسة وتُطوى هذه الصفحة السوداءُ من تاريخ تسييره الإداريّ. بعدَ حُضورِ والديّــها؛ أخبرا الأطباءَ أن ابنتهما تشاجرت صباحًا مع أخيها وخرجت غاضبةً من المنزلِ، وأنهم كانوا بصدد اللحاقِ بها إلى المؤسسة لتهدئتها، وأن الأمرَ لا يرتبطُ، قطعًا، بتحرّشِ مديرٍ أو تعنيفِ معلّمٍ. فَقَدْ تقدّم ابن خالتها لخطبتها ورفضت، فأراد أخوها إجبارها على الزّواج به غصبًا عن إرادتها.

  لم يستسغ الأربعةُ التّالفةُ عقولهم عدمَ موتِ التلميذة. قال "واشٍ": "لِــم لـمْ تمت ابنة البغلةِ وتُعفينا من هذه الجيفة التي تتسلّطُ على رقابنا. كانَ ينبغي أن تموتَ بعدَ السقوطِ مباشرةً، هذا هو المنطق؛ سقوط ثم موتٌ ثم حفرةٌ ثمّ يسجنُ "ضابطٌ" في زنزانةٍ إلى الأبد؛ ليصفو الجو ويحلو العمل". كان الثلاثة أثناءَ حديث "واشٍ" يمسكون هواتفهم، خفيةً، في جيوبهم. سجّلوا ما قيل عن ظهرِ قلبٍ. ما أنْ أنهى الواشي عمليّة الشّتم والسبّ والقذفِ  حتى انطلقَ الثلاثة راكضين كخيولٍ تتريّـــةٍ سَمعتْ صفيرَ سَائِسها.

كانَ "واشٍ" يقفُ مدهوشاً، متبلّدًا، متسائلًا عن سببِ ركضِ زملائهِ...   
تعليقات