القارئ السجّان - سعيد مُنتسب
ما الفرق بين سجّان الكتب في رواية «القطة التي أنقذت الكتب» لسوكسيه ناتسوكاوا وبين ألبرتو مانغويل الذي يفاخر بامتلاكه لأربعين ألف كتاب؟
فأن تكون قارئا «حقيقيا» ليس معناه أن تكون محاطا بآلاف الكتب المتنوعة، أو أن تبرع في تجميعها في الرفوف وتخزينها في الأقبية، أو في منع الآخرين من الوصول إليها. هذا ما كشفه ناتسوكاوا، على لسان طفل «مكتبة ناتسوكي» (رينتارو) الذي دخل في صراع محتدم مع رجل قرأ خمسا وسبعين ألف وستمائة واثنين وعشرين كتابا وأغلق عليها بأقفال: «جئت لأطلب منك إطلاق سراح الكتب»/ «من يحب الكتب لا يتعامل معها بهذه الطريقة !»/ «لا تنفع [الكتب] في شيء ما لم يفتحها شخص آخر».
كل كتاب من المفروض أن يكون لديه شيء يقوله، ولا يمكنه أن يقول هذا الشيء، دائما، إذا كان محتجزا وفاقدا لحرية التنقل. السجن هو الفظاظة المطلقة التي يمكن أن يعاني منها كتاب ما، رغم أن هذا النوع من الكتب [الجدير بالاهتمام] يكون غالبا سيء الخلق. والحق إن القارئ المكرس هو الذي يحب الكتب سيئة الأخلاق، فيستأثر بها، لأنها ذكية جدا، ومتمردة، وتفركل فيها حقائق لا تريد «المؤسسة» انتشارها بين الناس. التهديد هنا مثالي وحقيقي، وقد يُعاقب قارئُ الكتاب وكاتبه على حد سواء. غير أن ما يهمنا نحن ليس هو الكتاب الذي يقع عليه العقاب والحجب من طرف المؤسسة، بل ذاك الذي يُسجن عن عمد وسبق إصرار من طرف قارئ مفترض، لا يتردد، ما إن ينتهي من القراءة، في مراكمة الكتب بعضها فوق بعض (أو جنب بعض) لتغطي الرفوف والجدران والأروقة، يلتصق بعضها ببعض، أو يحتك به، أو يدفنه، أو يحجبه عن أعين الآخرين.
ليس من المفيد قراءة كتب لا حصر لها وإحاطتها بطوق متين ومنيع يحول دون وصولها إلى القراء الآخرين. هذا ما لا تحبه الكتب، أي أن تُنزع منها قدرتها على الحركة، فتصير بدون أقدام أو أجنحة. هذا هو الشر الخالص الذي قد تواجهه كتبٌ تريد، دائما، أن تُفتح على مصراعيها وتقلب أوراقها لتبدأ عملها باكرا، إذ لا تتردد في الاشتغال على القارئ، فتقرؤه بطريقتها الغريزية المتوحشة، وقد تلتهمه التهاما إذا وجدت فيه ثغرة أو قصورا، بينما تنجح بتوثباتها التأويلية في الإفلات من الانكماش في حيز دلالي واحد إذا كان القارئ مجربا وذا حنكة.
ورغم قوة الكتب، فإنها تحتاج دائماً إلى مساعدة إذا لم يتطوع أحد لقراءتها. فإذا لم تُقرأ فإنها تندحر تدريجيا نحو الخط الأمامي للعدم، وقد تتشوه فتتحول إلى مجرد ورق أبكم لا صوت له ولا روح. ولعل هذا ما جعل بورخيس يعتبر أنّ «جوهر الحقيقة يكمن في الكتب؛ تأليف الكتب، قراءة الكتب، التحدث حول الكتب». لا يمكن تصور كتاب دون مؤلف وقارئ ومؤول. هذا يحتاج إلى الكثير من الوقت، لا يكتفي الكتاب بأن يُقرأ ثم يترك إلى كتاب آخر. لا بد من الغوص فيه والمواظبة على فتحه والحديث معه، بل إعارته (نقله) بدأب واهتمام ودون تراخي.
لا بد أن تحظى الكتب بمشاعر عاطفية رقيقة، أي أن تشعر بالحب! هذه هي الطريقة المثلى للترحيب بها. وأسوأ أنواع الحب هو الإلحاح الغامض على تكديسها في الرفوف والعلب والحقائب.
فهل ينجو أحد من هذا النوع من الحب؟
يقول مانغويل: "بعد تركي لبيت عائلتي سكنت في بيوت كثيرة، كنت كل عامين تقريبًا أنتقل إلى بيت جديد، كانت الكتب هي أكثر ما يهمني الحفاظ عليه أثناء عملية التنقل، ومعرفة أين سأضع الكتب في البيت الجديد هي أول ما يخطر لي. في بيت ما وضعتها على الأرض، وفي آخر استخدمت العلب الخشبية، وفي غيره وزعت أرففًا خشبية على الجدران ووضعت الكتب عليها. آخر بيت سكنته في دمشق قبل خروجي منها، اشتريت مكتبة خشبية كبيرة وضعتها في المدخل الصغير للبيت، كانت تقريبًا تغطي غرفة المدخل، آلاف الكتب، موجودة فيها، هل قرأتها كلها: حتمًا لا، كنت أخطط طبعًا لقراءة معظمها، إذ لم يكن واردا أنني سأفقدها يومًا، ولم يكن في وارد الانتباه أن الحياة جد قصيرة لقراءة كل الكتب التي نقتنيها، كنت أعيش ربما أكثر مما أقرأ، إذ كان لدي ذلك الاطمئنان أن الكتب في المكتبة في البيت تنتظرني، حتى لو تأخرت عليها لن تغضب مني، سوف تسامحني دائمًا، إذ ما من مساحة في الحياة للغفران أوسع من المساحة التي توجد فيها المكتبة".
لنا أن نتصور أن الاستغناء عن الكتب مؤلم، ويشبه إلى حد بعيد الجلوس في غرفة لا سقف لها ولا جدران. شعور خالص بالبرد. لكن ما يعزز الحب هو أن تدرك أن الكتب لا تحتاج إلى زنازن أو قبور، لأن كل كتاب يتوفر على روح تنشد الكلام. كل كتاب، في العمق، طائر من حقه أن يفرد جناحيه بعيدا عن الأقفاص. لا وجود لكتب دون نوايا للتحليق عاليا، ودون ألسنة متوثبة للقول والجدل والنقاش وطرح الأفكار. كل كتاب ماكينة تأويل تتجمع في جوفها كل الأصوات. كل كتاب هو آلاف الكتب المترسبة.
إن تجميع الكتب في مكان مغلق والعناية بسطوحها ثم إهمالها، والاستئثار بالنزر القليل الذي قدمته للقارئ السجان، إهانة لاتساعها، وإهانة للكتب الأخرى المتراكمة في جوفها، إذ لا تشعر أمام ذلك بأنها في صحة جيدة إلا إذا قرئت، واستمرت في جلب القراء إليها والدخول في حوارية لا تنتهي معهم، على اختلاف ذخائرهم ولغاتهم. فالكتاب السعيد هو من يترجم إلى لغات أخرى، ويعثر على قراء آخرين يضيفون له، ويرشدونه إلى أجزاء فيه إذا عمي عنها أو لم يسبق له معرفتها أو الإحساس بها.
لم تكن الكتب مشكلة على الإطلاق، وليس لأي منها مطالب خاصة، بل تقبل أن يقرأها كل شخص على النحو الذي يريد، وبالسرعة التي يختارها. تعامل الكل بالقدر نفسه من التفاعل. تعلو وتنخفض. تأخذ وتبذل. تغتني وتهب العطايا. تسلب وتسلب. تمنع وتسخو. تتحجب وتتعرى.
صحيح أن كل كتاب يعمل باهتمام وتركيز من أجل التميز. هذه حالة كل كتاب يشعر بالحزن والألم إذا عومل على قدم المساواة مع الكتب الأخرى. إنه لا يدعي أنه متفوق أو أسمى، بل يتكئ تميزه على الاختلاف، ويستميت من أجل ألا يُترك لنفسه أو لعزلته القسرية المريبة. فهو لم يكتب على الإطلاق ليسجن، أو ليكلم نفسه، أو ليرتاح. ينبغي دائما أن يحدث للكتاب شيء ما، ولا يمكن أن يحدث هذا الشيء خارج القراءة. فالكتاب الحي هو الكتاب الذي تملؤه التجاعيد، ويشعر بأنه يعزز كفاءة القراءة، وليس ذلك الكتاب الذي يكلم نفسه بسأم، أو ذلك الذي يتكلف الحديث إلى قارئ لا يوجد. ذلك أن كل كتاب، في العمق، يملك مهارة الحوار مع عدد لا يحصى من القراء. هذا هو الغرض الذي وجد من أجله: أن يقرأ باستمرار، ويتعدد بتعدد رؤى القراء واتساع تأويلهم له. فليس هناك كتاب خلق لقارئ واحد، بل إن المبدأ الأسمى للقراءة هو الانفتاح على أكبر عدد من القراء، أما غايته فهي أن يظل دائم الاتساع من خلال دوام انفتاحه على قراء قادمين من المستقبل، ومن كل الجهات.
إن الكتب التي لا تُقرأ تزول وتختفي. والقارئ الذي يفاخر بالاستحواذ عليها لا يحبها بالفعل، ما دام هذا الحب الاستحواذي دليلا على أنه يجففها من أرواحها. هذا الحب مجرد تفاخر أجوف لا يفضي إلى معرفة أو استمتاع.
وتبعا لذلك، لا ينبغي للكتب أن تترك للهدوء على الإطلاق، وإلا فإن الممر إلى المعرفة سيكون أكثر إظلاما. كل كتاب يستحق أن يتنفس بعمق، وأن يعارك قراءه، قارئا تلو قارئ، بلا انقطاع. القراءة هي روح الكتاب ومنتهاه.
فإذا انفتح الكتاب انفتحت آفاق أخرى للقارئ. هذا هو الاتساع الذي يحمله في جوفه كل كتاب، أما إذا ظل سجينا فإنه يتحول إلى شيء آخر، لا يختلف عن أيّ تحفة فنية أو أثرية. ويظل السؤال هو: لماذا يلجأ القارئ، أغلب القراء، إلى سجن الكتب؟ هل لمجرد التباهي أم للاستقواء به على الأنداد، أم فقط حبا في التملك؟
مهما كان الجواب، فإن سجن كتاب داخل مكتبة دون الرجوع إليه، أو حتى التفكير في ذلك، بدعوى الامتلاك، يعطل اسم هذا الكتاب ويخنقه ويعرضه للتلف، بل إن القارئ السجان معرض لتهديد خطير إذا استمر في استحواذه. ألم تفلج الكتبُ الجانب الأيسر للجاحظ؟ ألم تقتله بعدما سقطت عليه رفوفها؟