پ

البروباغندا الصّامتة: التلفزة والجماهير، لإيكَناسيو راموني

 البروباغندا الصّامتة: التلفزة والجماهير، لإيكَناسيو راموني

عبد الرحيم دَودِي


البروباغندا الصّامتة: التلفزة والجماهير، لإيكَناسيو راموني



1. تقديم

نحاول في هذه الورقة تقديمَ ملخصٍ شاملٍ لأبرز المضامين الفكرية الواردة في كتابِ "البروباغندا الصّامتة: التلفزة والجماهير"، للباحث الإسباني "إكناسيو راموني". فقد نذر هذا الباحث جزءاً كبيراً من مساره البحثي لدراسة قضايا الصحافة والإعلام والسينما. وهذا ليس زعماً باطلاً؛ فالرجل اشتغل، ردحاً من الزّمن، مديراً لجريدة العالم الديبلوماسي. كما أنه درّس في أكبر المعاهد والمدارس العالمية، ومن بينها المدرسة المولوية بالرباط؛ حيث كان من أبرز أساتذة جلالة الملك محمد السادس. له مؤلفات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال: "الجغرافيا السياسية للفوضى"، "علكة العيون"، "فيدل كاسترو: سيرة ذاتية بصوتين"، ثم كتاب "البروباغندا الصّامتة: التلفزة والجماهير" الذي نحن بصدد جرد مفاصله الكبرى ومناقشتها.

2. مضامين الكتاب ودلالاتها

يقف الباحث في بداية كتابه عند خطورة الصور الــمُبرمجة. تكمن خطورة هذه الصور في طاقتها على الاختفاء والمباغتة. فهي صورٌ لا تتقصد وعي المشاهدِ، بل تتجه، منزلقة، نحو لاوعيه. إنّها لا تخاطب عقلاً يعي ويدركُ ويحللُ بل تستهدف وعياً نائماً؛ يوفر لها إمكان تفريخ عددٍ كبير من الاستيهامات والرغبات والحاجات الزائفة. يصبحُ المشاهد، في هذه اللحظة، كائنا استهلاكيّا موجّهاً ومبرمجاً بسلوكٍ استهلاكيّ هو لا يعيه. ويعتبر "راموني" هذا الاستهداف شكلاً من أشكال استعباد الإنسان المعاصر، الذي حوّلته آليات الدعاية ووسائل الإعلام إلى حيوانٍ استهلاكي شرهٍ لا يشبع أبداً. في هذا السياق يذكر الباحث أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تُجيّشُ جمعاً هائلاً من الخبراء والمفكرين المنتمين إلى مجالات معرفية مختلفة؛ بغية توسيع مجتمع الاستهلاك والتحكم في اختياراته وتوجهاته الفكرية والفنية والسياسية وغيرها. وتعتمد في كل ذلك على قوتها التكنولوجية المتمثلة أساسا في الأنترنيت الذي تحوّل إلى شبكة لا متناهية ولزجة قادرة على اقتناص ضحاياها بمكر وقوةٍ.

بعد ذلك ينتقل الباحث إلى الحديث عن توظيف تقنيات العرض السينمائي في تقديم المرسلات الإشهارية. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، يتم عرضُ إشهارات هوليوودية تضخّم من طبيعة المعروض وتُؤسْطرهُ في كثير من الأحيان. الأمرُ الذي يُفقد المشاهد القدرة على الاستيعاب العقلي ويجعله عُرضةً لِقَنْبَلَةٍ انفعالية مستمرةٍ. وهذا لا يرتبط بالاستهلاك التجاري فقط، بل يتعدّاه إلى مجال آخر أكثر خطورة وهو المجال السياسي. ذلك أنّ هذه الأفلام الـمُغرضة تخدع المشاهدين وتصمّم لهم، وهم الغافلون، قناعات سياسية واهمة، فيؤمنون، بفعل استحكام الخدعة، بصورٍ لا بواقعٍ حقيقي.

ويقدم "راموني" أمثلة دالةً على قوة الصورةِ في إخماد القوى الحية في المجتمع وتوجيه الكتلة الجماهيرية نحو حالة ركودٍ ذهنيّ. يتجلى ذلك زَمن الأزمات والنكبات. ففي أزمة 1929 التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية وعمّت العالم، قامت الولايات ببث برامج وأفلام عن التفاؤل والأمل والحب بما تحمله من وعود بمستقبل جميلٍ قادم.

وانطلاقا من سبعينيات القرن الماضي ستتجه الآلة الإعلامية والسينمائيّة الأمريكية إلى عرض أفلام ذات طابع أسطوريّ وأفلام الكوارث. تهدف هذه الأفلام، بصناعتها المتقنة، إلى خلق متخيل أسطوري تعسكر في أمريكا على كلّ حدود العالم. فأمريكا هي زيوس الأزمنة الراهنة، لا صوت لا يعلو فوق صوتها. إنها تحلق فوق السماء وتغوص في عمق البحر وتشق البر جبالاً وصحاري. ومن هذه الأفلام الأسطورية "مغامرات بوسيدون"، "قرصان الأعماق"، "اليابان تغمر المياه". وللإشارة فقد حققت هذه الأفلامُ مداخيلَ هائلة جداً.

غير أنّ وحشية الحروب التي اقترفتها الولايات المتحدة الأمريكية في الفيتنام وكوريا ومناطق أخرى من العالم جعلت الصناعة الهوليوودية تتخذ مساراً جديداً مختلفاً في التصوير السينمائي. لقد رفضت القوى الحية في الولايات المتحدة الأمريكية هذه الحروب الظالمة واتجهت هوليوود إلى تصوير هول المأساة التي خلفتها الآلة الحربية الأمريكية في الفيتنام. ومن أبرز الأفلام التي أُنتجت في هذه الفترة: "الدب والبحيرة"، "الفيتنام"، "جندي الشتاء".

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل يقف الباحث عند نوعٍ آخر من الأفلام. يتعلق الأمر بأفلام "الويستيرن". فما بين إيطاليا وأمريكا ستتخذ هذه الأفلام طابعاً خاصاً. ففي إيطاليا تظهر العصابة على شكل مافيات قاتلة شريرة وماكرة. إنها طائفة شريرةٌ لا تتورع عن فعل أي شيء لضمان مصالحها. بينما ستنطبع هذه الأفلام في أمريكا بميسم آخر. إن رعاة البقر هم الرجولة والفحولة والقوة والسيادة والانتصار، إنهم كلّ هذه الأوصاف وقد انصهرت في جسد الإنسان الأمريكي المتفوق والمتميز بالنبل القويّ.

وكان للفيلم الكوميدي نصيبه في الكتاب؛ حيث خصّص الباحثُ شطراً للحديث عن هذه الأفلام التي انتشرت في أقطار متفرقة من العالم. وكانت مرتبطة في مجملها بالسخرية من المواقف السياسية المتهورة، خصوصاً تلك الصادرة عن الدول الديكتاتورية غداة الحرب العالمية الثانية. وقد كانت هذه الأفلام مثار انتقاد وحجر من طرف الأنظمة السياسية حينها.

وفي النهاية يختتم "راموني" كتابه بالحديث عن أزمة خطاب السلطة في سينما المناضلة. يقوم هذا الضرب من السينما بشجب الأوضاع الاجتماعية المزرية ويدعو إلى اعتناق القيم الإنسانية النبيلة من عدلٍ وتسامح ومساواة. وغالبا ما يتخذ صيغة فيلم وثائقي تاريخي يوثق لمعاناة الإنسان في دولٍ تبتلع حقوقه وتنمّط حياته. فالإنسان المعاصر مهان ومغلوب على أمره ولهذا يتعيّن إنصافه ومنحه كافة حقوقه.

3. على سبيل الختم

وبالجملة، فإن كتاب "البروباغندا الصّامتة" يشكل عملاً فكريا متميز. إنّه بمثابة دليل يكشف كيفية سيطرة وسائل الإعلام، بضروبها المختلفة، على الإنسان المعاصر وتوجيهه وتطويعه. لا تترك هذه الوسائل للإنسان فرصة التفكير والاختيار. إنها تتحكم في وعيه ولا وعيه لتصيره كائناً استهلاكيا جائعاً، شرها، ومتعطشا للارتواء من الأوهام.

تعليقات