پ

رجاء عليش: سوء فهم

 رجاء عليش: سوء فهم

رجاء عليش: سوء فهم



قرأت كتابات رجاء عليش، لا أمنح لنفسي حق محاكمة إنسان حكى تجربته الوجودية مع "القبح"، لكني أظنه أعطى لحياته وللمجتمع أكثر مما يجب من الاعتبار. 

 تختلف نفوسنا في طريقة بنائها، في ارتفاع الحواجز الباطنية التي تحمي الذات من المجتمع، بعضنا يكون هشا بالنظر لظروف اعتباطية جعلت شكله، وعيه، وجوده الاجتماعي، يكون بشكل دون الآخر وبعضنا يستطيع تجاوز درامية الحياة ويصير صخرة نفسية لا تهتم للآخرين بغض النظر عن أعطاب تكوينه سواء القهري أو المسارات التي صنعته عبر اختياراته. غير أني لو وُجِدت في زمنه وكان صديقا لي أو اقتربت طرقنا بأي شكل كان كنت سأخبره بأن الناس لايحملون أي ضغينة شخصية ضد شكله ولا ضد روحه، الناس بشكل عام هكذا، كتلة عمياء نادرا ما يفكرون في شروط وجود الإنسان أو تركيب ذاته،  يتصرفون بدافع قوة عمياء نزقة، وأغلبهم يعبرون عن الضعف البشري وانحدار معايير الكائن الإنساني في الحياة بسبب عدم قدرة النوع الإنساني - لحدود الآن – على الانفلات من ربقة الطبيعة القهرية للبيولوجيا.

 الأطفال مثلا الذين رأى فيهم شياطين تلاحقه بالوصم والاستهزاء، ليسوا أكثر من بذور زرعتها تلك القوة العمياء في الأرحام، وأعطتها الطبيعة خصائص كل الكائنات: العدوانية والنزق. النساء  اللواتي اجتنبنه كثيرا بسبب شكله، لسن سوى حاويات جوفاء تملؤها القوانين الطبيعية العادية: المصلحة الذاتية التي تملي عليهن ما يجب أن يفعلنه ومع من لحماية نوعهن في بيئة عدائية لا تعترف سوى بالقوة والوفرة. الرجال الذين نظروا إليه باستعلاء ووجدوا متنفسا لأعطابهم الشخصية على حساب رصيده النفسي، ليسوا سوى ضحايا تلك الدوافع الطبيعية أيضا، عليهم أن يكونوا "أفضل" بأي شكل كان ليستطيعوا زرع بذورهم واستمرار جيناتهم ولو على حساب كائن ينتمي لجنسهم.  كنت سأخبره أن معظم أولئك الذين رأى فيهم "أعداء" مثله تماما ضحايا لطبيعة الحياة نفسها، للجينات والعمى الوراثي الذي يقود المادة  بشكل عشوائي نحو تحولات لامتناهية. 

ما غاب عن ذهن عليش هو  التعامل الحكيم اللامبالي مع كل تلك الردود المبرمجة من المجتمع، لو استسلم للطبيعة الحيوانية للكائن لتصرف بما تمليه عليه طبيعته الغريزية: البقاء والاستمتاع بتجربة الحياة بأي شكل ممكن ولو على حساب الآخرين، مثل العلقة تماما، تلتصق حيث تجد الدماء ولا تهتم لما يظنه الضحية. لكنه عوضا عن ذلك ظل طوال حياته يأمل في وجود "إنسانية" و"أخلاقيات اجتماعية" و"إله عادل" يمنع عنه الأذى النفسي، وهنا خطؤه الأسياسي الكبير، لقد وثق في ما لا يجب الثقة فيه، هذا هو الخطأ وليس القبح الشكلي.

إن أكبر خطإ يمكن أن يرتكبه واحد من نوعنا الحيواني، نحن الثدييات التي تقف على ساقين، هو أن يعتبر أن كل الأخلاقيات التي أنشأها الناس، بما فيها الله والإنسانية والقانون الوضعي تستطيع أن تغير من جوهر طبيعتنا الحيوانية. إنها تغير في حدود دنيا فقط، الحدود التي تسمح لنا بأن نظل متكتلين ضد أخطار الطبيعة والناس: الجفاف والحرب والزلازل والبراكين والوباءات القاتلة. أما داخل المجتمع نفسه، حين يضمن صلابة قشرته الخارجية ضد ما يمكن أن يفككه، فالناس يطلقون الحرية لطبيعتهم البدائية، وهكذا يجب أن نفهم صعوبة تشذيب أو "تهذيب الأخلاق" مثلما اعترف مسكويه وقبله أرسطو وبعدهما الكثير.

ما الذي نفعله حين تضمن الأخلاقيات الحد الأدنى للبقاء الاجتماعي لكن تغيب تماما في صراع واحد ضد واحد أو الجماعة الداخلية نفسها ضد واحد من أفرادها؟ هذا هو السؤال الذي كان يفترض أن يطرحه رجاء عليش عوض السؤال: لماذا يكرهونني لأني قبيح؟ 

ليس للحكمة أي دور في وجود الفرد إن لم تستطع تسليحه باللامبالاة  والحماية السيكولوجية تجاه النزوع الغريزية للجماعة، الجماعة بطبيعتها عدوانية، ساخرة، خطيرة، تنحو إلى سحق الواحد إن لم يخضع لشروطها ومعاييرها، مهما كانت هذه المعايير غير ذكية أو اعتباطية، يشير رجاء عليش لكونه ليس مسؤولا عن قبحه، فقد منحته إياه الطبيعة أو الله، وهنا لا يفهم فعلا أن الأمر لا يتعلق بما نختاره أو بما هو مفروض علينا بقوة الأشياء وبعشوائية الطبيعة نفسها ( مزاجية الله)، لا حاجة للبحث عن جينالوجيا وجودنا حين يتعلق الأمر بالعلاقة مع الآخرين، الجينالوجيا مفيدة في علاقتنا بالكون والذات، أما العلاقة مع الآخرين فالمنهج السليم هو البراغماتية، كيف أكون الآن، هنا، دون أن أتعرض لخداع من عقلي ومن ثمة أصير ضحية لمفاهيم مغلوطة عن حياتي داخل المجتمع؟. 

تكمن الحكمة في هذه الحالة، كما حاول الرواقيون والأبيقوريون ونيتشه والطبيعيون الجدد تفسيرها، في النظر إلى الذات كجزء من الطبيعة، بكل قوانينها العدوانية، دون مثاليات أخلاقوية سرعان ما يصير صاحبها ضحية للاضطهاد النفسي. 

لو ضرب طفلا بشكل قاس أو أعطاه الحلوى لابتعد البقية عن طريقه خوفا أو طمعا في العطاء، لو استعمل ماله لجلب عاهرات لحلت مشكلته مع الجنس الآخر، أو لو استعمل عضوه الكبير بحكم كونه زنجيا لأحبته النساء، حتى تلك المتزوجات اللواتي تعانين في صمت من صغر أعضاء أزواجهن. لو فهم أن ما يكتبه قد أعطاه قيمة حقيقية وسط الرجال وأنه دخل باب تاريخ الأدب عكس كل الوسيمين الذين انتهى وجودهم مع موتهم لما اهتم لا للنظرات ولا للكلام ولا لأي شيء. إن طبيعة الحياة تتطلب أن نكون أنانيين ووقحين أحيانا، وقاحة وجيهة حين تكون حاجزا ضد النزق الطبيعي للمجتمع، وإن كان ديوجين قال يوما إنه سيستمني على قارعة الطريق ليعرف الجميع من هو، فإن هذا هو المقصود: الإنسان الذي عرف الطبيعة البشرية ولم يعد ضحيتها داخل وعيه، بل يتسامى عنها بكل ما يستطيع من قوة عقلية وعملية. خطأ الكاتب كان هو البحث عن "الحب" و"الإنسانية" و"الاعتراف الاجتماعي" بعقلية طفولية، في بيئة لا توجد فيها كل هذه الأساطير، ربما كان مشوشا بالأثر النفسي المباشر للضغط الاجتماعي، لكنه كان مفكرا وليس مجرد شخص يعيش حياته دون إدراك، يجب أن نبول على المجتمع وكل المعايير حين يستدعي الأمر ذلك، دون ضغينة أو حقد، بل ببراغماتية تضمن وجودنا كما نحن، كما نريد في حدود المتاح، وإلا نتحول لدون كيشوت، نحارب أشياء لا يمكن محاربتها ولا تهتم لوجودنا كذوات أصلا.

محمد البوعيادي
تعليقات