پ

الحكيمُ كمَا عــلَّـمنا

 الحكيمُ كمَا عــلَّـمنا

في الذكرى الرّابعة لرحيل الأديب المغربيّ الكبير محمد بنعبود

عبد الرحيم دَودي
muhamad binaebud



كانَ مَوتُه اقتناصًا قَدريًا صامتًا، شبّهتهُ في مستهلّ نصِّ: "لقاء خارجَ المكانِ"، الذي حبّرته، مباشرةً، غِبّ رحيله، بالاقتناصِ، غدراً، الخشفَ الممعنَ النظرَ إلى صورتِه مُنْعَكِسَةً على مرآةِ البحيرة. موتٌ صامتٌ، سريعٌ، خاطفٌ، نظيرُ وميضِ برقٍ التمعَ، خطفاً، ثم امّحى. موتهُ يشبهه. حياتهُ تُشبهه. كلماتهُ تشبههُ. هيئتهُ تشبهه. نَظَرَاتُه- حكمةُ تصريفِ المعاني اقتدارًا وفهمًا- تُشبههُ. كلّ شَيء فيه يُشبهه. حتى النّبر الغميس لـكتبه وترجماته الكثار يشبههُ. صامتٌ ظاهراً ناطقٌ جوهرًا. منكفِئٌ على ذَاته منسجمٌ معَها، منفتحٌ على سماواتِ الإبداعِ مندغمٌ فيها. وتَسْأَلُـهُ، وهو في الأبدِ البَعيد، فتسمعُ هَسِيسَ لـغةٍ بُــدائيةٍ تستعيدُ الـنّبضَ البِكرَ لـعناصر الوجودِ قبل الـتّجاوزِ والتخطّي:
"فلتكنْ، يا بنيَ، كأناشيد الأطفالِ الصغارِ: شفيفًا، خفيفًا، لطيفًا. فلتكنْ غيمةً تهمي طلاّ وحبًّا. فلتكنْ أغنيةً تضيءُ ليلَ عُدوسِ السُّرى في المفازات والفيافي.".
لم يكن يبتغي شهرةً أو مجدًا: مجدهُ الصّمت. شهرته الكُتب. يكتبها ثمّ يوزّع حصّته منها على كلّ سائلٍ طالب. وينسى أنّه كتبها. تسألـه عن مَبنَاها ومَعنَاها؛ فيوغلُ بكَ إلى الشّاردِ الخفيّ، والبعيدِ المطويّ، والمفارقِ المعضلِ، والمتناقضِ الـمُشكل، ويوصدُ كلامه نابسًا: لا بدّ أنّ الكاتبَ نسيَ وأغفلَ.. وفاتته معرفة هذا وذاك. تسألـه بدهشةِ طفلٍ رأى، أوّل مرّةٍ، فراشةً: ألستَ أنت كاتبها؟! فيجيبُكَ باتزانِ صوفيٍّ يملكُ تمرةً واحدةً ورُشافةَ ماءٍ وسماءً بكلّ زرقتها:
"كاتبها شخصٌ التقيتهُ مرّةً، جالستهُ، حينًا من الدّهر، كان يُشبهني، بيد أنني فقدتُ رقم هاتفه، وكلّما قرأت كتاباً من كتبهِ، هاجستُني: "كم يشبهني هذا الكَاتب، الفرقُ أنـه كَتَبَ كُتُبًا أمّا أنا فأحاول أن أكونَ مِثْلَهُ".
لـم يكن ينافسُ أحدًا: مُصيخًا الـسّمعَ لأنينِ الصّفحاتِ الصّفراء، كان يستنزفُ بحرَ يومه. كلّما قرأ أكثرَ أحسَّ أنه حبّةُ قمحٍ صغيرةٌ. فَهِمَ مقدار نفسه فَاتَّضَعَ أمامها. كانَ يقول مُعاتبًا:
"اقرأ لـتعرفَ دوائرَ الجهلِ المتناسلةَ في ذهنكَ. لن تصيرَ عارفاً تمامَ المعرفة، لكن، بالقراءةِ، وَحْدَها، ستستشعرُ السّريان السريّ للغة الكونِ".
 في اللقاء الأخير على بوابة الشَّمال من أطلس العالـم، حدّثني عن روايةِ "موتٌ صغيرٌ"، وقال هذا نصٌّ حقيقيّ، أما الـنُّصوص التي عاندته الجائزةَ منافسةً فلا تَدنو منه، فَبَلْهَ تضارعهُ. وأعطاني مخطوطاً رقميًّا لــترجمته روايةَ "أيام وليال" لجيلبر سينويه، طالبًا منّي- أنا المتعلِّم الغرّ، السّاذَج، الحالم- مراجعتَه وتدقيقَه. تلقّيتُ التكليفَ استغرابًا ودهشةً وذهولاً: "أيشجعني على تحصيل المعرفةِ قصدًا أم رأى فـيَّ نباهةً لست أدّعيها؟". قرأتُ المخطوطَ في ليلتين توأمين، ثمّ أعدتهُ إليه مع ملاحظاتٍ لا تتجاوزُ أصابعَ اليدِ الواحدةِ، ونصٍّ نُشِرَ حينها بعنوانِ: "حضورٌ واحدٌ وجوهٌ متعدّدة". بريدهُ الإلكترونيّ على ما أقولُ شهيدٌ. بعدَ وفاتـه أرسلتُ المخطوطَ إلـى زوجتهِ المحترمةِ، وفاءَ ثقةٍ غيّرتني كثيراً...
كانَ واحدًا من "القلَّة الهائلةِ" السّائرةِ، للأسفِ، ويا للحسرةِ، صوبَ الانتفاءِ. إنسانٌ خالصٌ، هادئٌ، متزنٌ، ثابتٌ، منصفٌ، يقولُ الـحقّ ولا يخشَى فيه لومةَ لائمٍ. كان يرشفُ المحبّةَ من مَظانها البُدائيّةِ الأصليّةِ الأُولى. كـلّما تـذكَّرتهُ رأيتُ "Tzu"- بما هو مَصدَرُ المحبّة التلقائيِّ المزروعُ في صميمِ الكونِ وصميمِ الـنَّفسِ الإنسانــيّةِ وَفق ما تومئ إليهِ فلسفاتُ معلّمي الشَّرق الأقصى- مُتَجَسِّدًا في شَخْصِهِ. لــم يكن إنسانًا عاديًا تستغرقهُ مُنَافَسَةُ الآخرين من أجل إثبات ذَاتِه؛ لهذا لم يَنْتَهِبْهُ خوفُ الإخفاقِ يومًا ولــم تُسْعِدْهُ جَلَبَةُ النجاحِ ساعةً.
كانَ إنسانًا بسيطًا تحرّر من الأنَا الضيقة، وانعتقَ من وَهْمِ السُمعةِ والمكانةِ المميَّزَةِ. كانَ ينجزُ العملَ دونَ جعجعةٍ أو بحثٍ عن مقابلٍ، ثمّ ينسى ما أنجزه؛ لهذا فإنّ عمله لن يفنى: زهرةٌ تنمو في سخاءِ الجبال والغابات والبراري، ترسلُ ذَاكرتها اللامرئيةَ، عبر الرياحِ، لتُجَدّد حُضُورَهَا الثرّ بوجوهٍ متعدّدةٍ في أصقاعٍ مختلفة. قمر لا يني يسفكُ نورهُ منيراً ليلَ التائهين والعاشقين. ولا أجدُ تعبيرًا يشفُّ عن هذه الانثيالاتِ النورانيّةِ سوى أبياتٍ من شعر الــزِّنّ:
سِربُ الإوز البريّ يجتازُ زرقةَ الأفقِ في الأعلى،
صورة الإوز البريّ تَنْعَكِسُ على صفحةِ المياهِ الصافيةِ في الأسفلِ،
الإوزُّ لم يَقْصِد رسمَ صُورته على مرآةِ البحيرة،
مياهُ البحيرةِ لم تقصد الإمساك بغوايةِ الـلّونِ عابرًا.
لقد تــمَّ كلّ شيءٍ بصمتٍ، فتّانٍ، غريبٍ، ماحقٍ، مثيرٍ، قنّاصٍ. وحفظتْ ذاكرةُ الـماءِ العبورَ الصاعقَ للمعنى في الأفقِ اللازورديّ. وكأنّ شيئًا لـم يحدث، والحالُ أنَّ كلَّ شيءٍ حدثَ دونَ تفعُّل أو تعمُّلٍ: بانسيابيةٍ عَفَوِيّةٍ، سائلةٍ، خفيةٍ. فلتكنْ بحيراتُ السّماءِ الفردوسيةُ لائقةً بمقامِ حكمتكَ أيها البحريُّ النبيل.
شكرًا لـأنّك كنتَ كما كنتَ لا تشبه إلا صمتكَ، في زَمنٍ بِـــتْنَــا فيه، نحنُ المتوثبين المتقافزين، نُشبه بضعنَا بعضًا كثيرًا...

تعليقات