نصوص - موت آخر


موت آخر

موت آخر



 - بقيت جثة قيصر مسجاة في القاعة، اجتمع القتلة في غرفة قريبة، لكنه لم يكن قد مات بعد، كان الدم قد تخثر في حلقه، وعيناه بدأتا بالانقلاب، وحشرجة صامتة تصعد من حنجرته المقطوعة، وسمع بصعوبة بالغة بروتوس وهو يقول: كان أمراً مقيتاً، قبيحاً، يدي ترجفان، اللعنة عليكم، لكن ما باليد حيلة أليس كذلك؟ فيجيبه سيناتور عجوز وهو يمدّ إليه كأساً ذهبيّاً من النبيذ: حسناً فعلت يا بروتوس، قيصر كان عظيماً وستظلّ ذكراه كذلك، لكنه في سنينه الأخيرة صار عقبة أمام ازدهار روما. ازدهار روما، نعم! ازدهار روما، ردد كل العجزة الحكماء. 

حين مات قيصر لم يكن في ذهنه سوى شيئين: روما ستزدهر وصديقه يحبّه رغم كل شيء.
 
- خرج علي ابن أبي طالب إلى مسجد الكوفة لصلاة الفجر وهو على علم مسبق بأنه يومه الأخير، تقول المصادر أن الإوز الأبيض تبعه عند خروجه من منزله صائحاً لموته الوشيك، تذكر ساعتها قول النبي محمد له: "يضربك ضربة على رأسك فيخضب بها لحيتك" ثم تأكيد الموت له قتلاً: "إنك ستُضرب ضربةً ههنا، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقرُ الناقة أشقى ثمود"، لكن رغم علمه ذلك فقد أتمم الطريق إلى المسجد منتظراً قدره الضروري، مثله مثل بقية من قتلوا قبله فارتاحوا من ثقل الناس والفوضى التي عمت الزمان، لقد استسلم علي للموت راضيا، لابد أن عقله كان صافيا تماماً لا تشوبه أية رغبة أو غريزة أو شعور، فقد أدرك أن ساعة الموت حانت، ولابد من أن تكون بطريقة لائقة، حيث ترتاح روحه وقلبه ويرتاح الناس بعده، لم يتم ربط موته بصلاة الفجر عبثاً، فقد تطهر وغسل وانشرح صدره لما يعتقده الحقيقة والحق، على فراش الموت ورأسه مقسوم نصفين بالسيف، كان غير مشغول بموته، ولا بألمه، ظلّ يخبر أبناءه بأن الغاية من موته حين أن يصيروا أفضل منه، وأن يصير الزمان خيراً من زمانه. 

إذا كان موتنا سيؤدي لازدهار أيّ شيء أو تحرير أي إنسان، وكنا متأكدين أن من يحبوننا سيذكروننا في المسرات والأحزان، فهل سيختلف عن موت آخر في ظروف أخرى؟ 

في أدبيات روما القديمة وأدبيات الإسلام الكلاسيكية، يتعامل الرجال مع الموت كوداع هادئ، يقضي الإنسان ديونه، يؤدي واجباته تجاه الناس والإله، يشتري كفناً نظيفاً، يتطهر بالماء، يتسامح مع كل من كرهوه أو ظلمهم في الحياة، ثم يغادر بهدوء ورضا آملا في عالم آخر أكثر حرية وعدالة، إنها - لابد أن نعترف- طريقة نبيلة للموت، إذا كان الوعي قادراً على إدراك لحظة الموت المناسبة فتلك ميزة خارقة، يتجهز الذهن والجسد والروح للغياب، ويتم الانصراف بشكل لا يترك ندماً ولا خوفاً على الذين نعرفهم، إنه من المهم أن يموت الإنسان مطمئنا، وما بشاعة الحروب إلاّ في موت الغفلة وما يبقى في الذوات من أمل أو ندم أو خوف وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، موت الحرب قبيح لأن لا أحد يكون مستعدّاً للموت.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-