منهجية القولة : إشكال خصوصية التجربة العلمية ودورها في بناء النظريات العلمية


منهجية القولة : إشكال خصوصية التجربة العلمية ودورها في بناء النظريات العلمية

إشكال خصوصية التجربة العلمية ودورها في بناء النظريات العلمية

القولة:


إن التجربة العلمية التي لا تصحح أي خطأ، وتقدم نفسها بوصفها حقيقة لا نقاش فيها، تجربة لا تصلح لأي شيء.


منهجية القولة : إشكال خصوصية التجربة العلمية ودورها في بناء النظريات العلمية


تحرير الموضوع:

مقدمة:

تطرح القولة داخل مجال المعرفة، والمعرفة العلمية خصوصا، إشكالا يرتبط بخصوصية التجربة العلمية ودورها في بناء النظريات العلمية. إن التجربة في العلم، بوصفها مجموعة من الإجراءات النظرية والعلمية، وباعتبارها خطوة أساسية في المنهج التجريبي، ودعامة من دعاماته القوية، يجعل منها لحظة منهجية جديرة بالمساءلة الإبستيمولوجية. فما خصوصية التجربة العلمية، وما دورها؟ وبأي معنى تصحح التجربة العلمية أخطاء العلم؟ وهل التجربة العلمية هي العنصر الحاسم في بناء النظريات العلمية؟

تحليل:

تقدم القولة إثباتا مفاده أن التجربة العلمية التي لا تصحح أخطاء العلم، وتقدم ذاتها جوابا حقيقيا ويقينيا غير قابل للمناقشة والمراجعة، هي تجربة لا تصلح لأي شيء وبالتالي فهي تجربة لا تدخل في صميم الممارسة العلمية. إن هذا الموقف الإبستيمولوجي من التجربة العلمية بوصفها مجموع الإجراءات النظرية والعلمية التي تعمل باستمرار على تصحيح الأخطاء العلمية، هو موقف يضمر في الحقيقة تصورا محددا للعلم ذاته ولتاريخ تطور العلم. فالعلم داخل هذا التصور الإبستيمولوجي إنما يتطور ويتقدم بفعل التصحيح العلمي المستمر لأخطاء العلم، وتاريخ العلم، كما يقول "باشلار"، هو تاريخ أخطائه، وتاريخ قطائع مع هذه الأخطاء، دون أن نعتبر الخطأ هنا ذا معنى قدحي، وإنما يدل فقط غلى قصور نسبي مرده السيرورات العلمية التي ساهمت في إنتاج نظرية علمية ما بناء على تجربة علمية شكلت في تلك اللحظة تصحيحا لأخطاء سابقة. كما أن التأكيد على الفعل التصحيحي الذي تقوم به التجربة العلمية تأكيد يضعنا مباشرة داخل العقلانية العلمية المعاصرة التي عملت على إعادة النظر الإبستيمولوجي في مفهوم التجربة ودورها. فالتجربة العلمية هي أساسا تجربة تنفصل عن التجربة المشتركة القائمة على الرأي السائد والنفعية والدوغمائية؛ بل لم تعد التجربة العلمية تحمل المواصفات نفسها التي كانت تتمتع بها في لحظة هيمنة النزعة الاختبارية التي كانت تنظر إلى التجربة العلمية بوصفها تلك العملية التي تقوم بالوقوف عند المعطيات وإعادة بناء الظاهرة في المختبر والتعبير الموضوعي عن الواقع التجريبي، إضافة إلى كونها العملية التي تسمح للعالم بصياغة القوانين صياغة رياضية، مما أضفى عليها هالة من "التعظيم"؛ وبدأ العلماء يتحدثون عن التجربة العلمية الحاسمة في تقديم الحقائق. إن مثل هذا التصور الاختباري هو ما تسعى القولة إلى دحضه عبر إعادة قراءة تاريخ العلم وإعادة سبك جملة من المفاهيم العلمية مثل اليقين والخطأ...

مناقشة:

يعبر التصور الإبستيمولوجي السابق عن قراءة جديدة للعلم وتقدمه، فالعلم لا يتطور بشكل تراكمي، بل انطلاقا من أزمات وقطائع وتصحيحا لأخطاء العلم، كما أن هذا التصور يعبر عن عقلانية علمية جديدة أصبحت تعتبر حقائق العلم تفسيرات مؤقتة قابلة للدحض، وهو الأمر الذي أدى إعادة النظر في علاقة التجربة مع النظرية ومعايير علمية النظريات العلمية. وفي هذا السياق يذهب الإبستيمولوجي روني طوم إلى أن التجريب العلمي في معناه الاختباري التقليدي لا يشكل المقوم الوحيد في تفسير الظواهر الطبيعية، بل لا بد من اعتبار دور الخيال وأهميته في عملية التجريب، من ثم ضرورة إغناء الواقعي بالخيالي، على اعتبار أن الخيال عملية عقلية مبدعة لا يمكن لأي جهاز آلي أن يقوم مقامها. وفي سياق ذاته، اعتبر "إنشتاين" المفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري للعلم مثل الفيزياء، إبداعات حرة للعقل الرياضي القادر على تشييد وبناء الواقع العلمي الذي ليس هو الواقع التجريبي المباشر، إنما هو واقع مشيد وعلى التجربة ومعطياتها أن تتطابق مع ما يمنحه العقل الرياضي من أنساق، ولهذا الاعتبار يؤكد "إنشتاين" على أن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة، بل في العقل الرياضي. ولقد كان من نتائج هذه التحولات الإبستمولوجية التي عرفتها العلوم الحقة، أن اعتمدت معايير جديدة للنظريات العلمية عوض التركيز على مفهوم التجربة الحاسمة. وهكذا تحول الدارسون إلى الحديث عن أهمية الفروض الإضافية والاختبارات المتعددة في إضفاء التماسك المنطقي والقوة العلمية على النظريات العلمية. كما ألح "كارل بوبر" على أن النظرية العلمية التجريبية الأصلية، هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز نقط ضعفها.

تركيب:

تفصح القراءة الإبستيمولوجية لتاريخ العلم عن دينامية خاصة، وعن طابع تفاعلي بين النظرية والتجربة في المعرفة العلمية، بحيث لا مجال للحديث عن انفصال أو أولوية طرف على الآخر، بل هناك حوار دائم بين النظرية والتجربة، بين العقل والواقع. فلا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل، ولا وجود لنظرية عقلية مجردة.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-