منهجية السؤال الفلسفي : هل يمكن تبرير العنف؟
السؤال : هل يمكن تبرير العنف؟
تحرير الموضوع:
مقدمة:
يشكل العنف في المجال السياسي، بما هو مجال لتدبير الحقل العام من طرف الدولة، مظهرا من مظاهر السلطة السياسية، وآلية من آليات الممارسة التي تحتكرها الدولة ولا تسمح لغيرها باللجوء إليه. وإذا كانت الدولة تعاقب عبر قوانينها كل من يمارس العنف، أيا كان شكله، فإن الإشكال الذي يطرح هو ذاك العنف الذي تمارسه الدولة على الجماعات والأفراد: هل هو عنف مبرر مشروع وشرعي؟ وهل هو عنف مقيد بظروف جد خاصة أم من حق الدولة اللجوء إليه في أية لحظة تشاء؟ أم إن العنف هو فعلا حكر على الدولة وممكن تبريره من منطق حفظ الأمن والدفاع عن المصلحة العامة؟ أم إن العنف كيفما كان غير ممكن تبريره تبريرا يضفي عليه المشروعية والمعقولية؟
تحليل:
إذا كان من الممكن القول إن العدوانية تشكل عنصرا غريزيا ومشتركا بين الإنسان والحيوان، على اعتبار أن العدوانية هي سلاح الكائن الحي من أجل البقاء، فإن العنف الجسدي والرمزي (الاحتقار، التمييز، السب...) هو امتداد لتلك العدوانية وتطوير لها بابتكار أدوات وطرق أكثر تدميرا. لذلك ارتبط العنف بالإنسان، الذي تفنن في تنويع أشكال العنف وفي إضفاء التقنية عليه من استعمال اليد والحجارة إلى القنابل الذكية الأكثر فتكا. ولا ينحصر حضور العنف على مجال العلاقات بين الأفراد (الرجل والمرأة، الراشد والطفل...) أو بين الدول في شكل صراعات وحروب، بل يحضر أساسا في عمل كل دولة، وذلك على أساس أن الدولة لكي تفرض سلطتها وقوانينها، وبالتالي شرعيتها، عليها أولا أن تحتكر العنف لذاتها وتمنع الأفراد والجماعات من استعماله (تجريم حمل السلاح، والاعتداء على الغير...)، كما عليها استعماله كلما رأت ذلك ضروريا لحفظ النظام العام والمحافظة على سلطة الدولة. من هذا المنطلق يمكن القول، مع "ماكس فيبر" إن الدولة بوصفها تنظيما مؤسساتيا لمجال ترابي ما لها الحق في احتكار العنف واللجوء إليه بوصفه وسيلتها المميزة، ومن ثم لا يمكن تصور دولة حديثة لا تلجأ إلى العنف. إن العنف من زاوية النظر هاته، عنف يمكن تبريره، إي يمكن بصدده إعطاء جملة من الحجج والأدلة على ضرورة لجوء الدولة إلى العنف. وأول تبرير هو التبرير القانوني، إذ القانون يعطي للدولة والتي هي مصدر التشريعات القانونية، الحق (الحق الوضعي) في إلحاق الأذى الجسدي بالأفراد: فك الاعتصامات، فك الإضرابات...، كما أن حفظ الأمن العام والمصلحة العامة هي أكبر الحجج التي تلجأ إليها الدولة ومؤسساتها لتبرير العنف. هكذا يصبح العنف مبررا وشرعيا. لكن هل يمكن تبريره ليصبح مشروعا؟
مناقشة:
إن العنف هو في جميع مظاهره قوة تدميرية، سواء اعتمدته الدولة أو استعمله الأفراد فإن آثاره السلبية لا بد أن تدفعنا إلى أهمية التفكير في كيفية الحد منه، خصوصا وأن الفلسفة كما يقول "إ.فايل" تجعل من العنف إحدى مشكلاتها النظرية الكبرى، وتعمل على زواله أو على الأقل الحد منه. لذلك لا يمكن للفلسفة أن تمجد العنف، ولا أن تبحث له عن مبررات ومصوغات، مادام العنف في نهاية الأمر مساسا بجسد الإنسان وبكرامته. لكن كيف يمكن للدولة أن تحد من عدوانية الأفراد وعنفهم، خصوصا وأن الجميع لا يخضعون للعقل ومقتضياته؟ هل من الممكن الحديث فقط عن العنف البناء الذي غاياته الحد من العنف ذاته، وذلك حتى نجعل الكل يخضع للعقل وللمصلة العامة، مع تقنين هذا العنف وإخضاعه لقوانين صارمة؟ إن هذه الأسئلة تنطوي على إحراج نظري كبير وهو: كيف نمارس العنف دون المساس بكرامة الإنسان وسلامته الجسدية؟ وبعبارة مجردة هل يمكن تبرير العنف ليصبح مشروعا بحيث لا يتنافى مع الحق الطبيعي للإنسان وسلامته الجسدية؟ وبعبارة مجردة هل يمكن تبرير العنف ليصبح مشروعا بحيث لا يتنافى مع الحق الطبيعي للإنسان، وحتى تكون الدولة دولة حق وقانون؟
ترى الفيلسوفة "حنا أرندت" أن العنف يمكن أن يبرر، لكنه لا يمكن أبدا أن يكون مشروعا، ومعنى هذا القول، أن القانون يمكنه أن يبرر لجوء الدولة إلى العنف ويعطيها الحق في ذلك، لكن لا يمكن إضفاء المشروعية الأخلاقية والحقوقية على العنف، وذلك على اعتبار أن كرامة الإنسان وحقه في الحياة فوق كل اعتبار قانوني، وإلا سنفتح بذلك الباب أمام انتهاكات حقوق الإنسان باسم القانون.
تركيب:
يطرح التفكير في مفهوم العنف، سواء على مستوى النظر والتأمل أو على مستوى الممارسة، إشكالات فلسفية وقانونية وسياسية، وإحراجات حقوقية وأخلاقية. وإذا كان من السهل القول: إن غاية الدولة هي حفظ النظام العام والدفاع عن المصلحة العامة، مما يبرر اللجوء إلى العنف؛ فإن ما سيترتب عن هذا القول من نتائج تمس حقوق الناس الطبيعية، مثل حقهم في الحياة والكرامة، يجعل الرهان الأكبر هو العمل على تحقيق دولة الحق والقانون.