منهجية تحليل نص فلسفي : إشكالية العلاقة بين النظرية العلمية التجريبية ومفهوم الخيال


 

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكالية العلاقة بين النظرية العلمية التجريبية ومفهوم الخيال

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكالية العلاقة بين النظرية العلمية التجريبية ومفهوم الخيال



إشكالية العلاقة بين النظرية العلمية التجريبية ومفهوم الخيال


النص :


"إن النظرية غالبا ما تظهر في البداية كنوع من الخيال، ذلك الخيال الذي يأتي للعالم على شكل إلهام قبل أن يتمكن من اكتشاف قواعد المطابقة التي تساعده على إثبات نظريته. وعندما قال "ديموقريطس" إن كل شيء يتكون من ذرات، لم يكن لديه بالتأكيد أدنى دليل تجريبي على صحة نظريته، ومع ذلك كانت لديه عبقرية فذة، وفراسة عظيمة.

ذلك لأنه بعد مضي أكثر من ألفي سنة أمكن إثبات ما تخيله. لهذا السبب لا ينبغي أن نتهور ونعارض أي خيال توقعي لنظرية ما، بشرط أن يكون في الإمكان اختباره في زمن مستقبلي ما. والواقع أننا نقف على أرض صلبة، ولكن إذا كنا نتوخى الحذر حقيقة، فلا يمكن أن تدعي الفرضية أنها علمية إلا إذا كانت هناك إمكانية لاختبارها. وليس المطلوب إثباتها حتى تصبح فرضية، وإنما المطلوب أن تكون ثمة قواعد مطابقة تسمح، ولو مبدئيا، بأن تكون لدينا وسائل لإثبات أو عدم إثبات نظرية ما".


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتأطر موضوع هذا النص ضمن المجال الإشكالي النظري للمعرفة العلمية، وخصوصا ضمن مفهومي النظرية والتجربة بوصفهما مفهومين إشكاليين متداخلين. والنص الذي نحن بصدد تحليله، يعالج إشكالية العلاقة بين النظرية العلمية التجريبية ومفهوم الخيال، إذ يرى صاحب النص أن النظرية العلمية توجهها في البداية بعض الأفكار الخيالية التي سرعان ما تتحول إلى فروض أو إثباتات قابلة للتجريب، ومن ثمة يرى أن الخيال العلمي هو بمثابة فرضيات قابلة للتحقيق التجريبي. فما مكانة الخيال في النظرية العلمية؟

ولماذا تتحول الأفكار الخيالية إلى فروض علمية حقا؟ وإلى أي حد يمكن الاتفاق مع أطروحة صاحب النص؟


تحليل:


ينطلق صاحب النص من فكرة أساسية، وهي أن النظرية العلمية تجد أساسها ومنطلقها ليس في التجربة، بل في الخيال العلمي، وكثير من الأفكار العلمية الخيالية صعب على العلماء إثباتها تجريبيا في لحظة إلهامهم.

ويعتقد صاحب النص أنه لا يجب معارضة فكرة وجود "خيال علمي" يوجه النظرية العلمية التجريبية، ومع ذلك يؤكد على مسألة أساسية، أن الخيال، لا بد أن يصبح يوما ما فكرة أو أفكارا قابلة للاختبار. فما يستعصي على التجربة العلمية اليوم، يكون ممكنا في المستقبل، فالنظرية في جزء أساسي منها أفكار مستقبلية متخيلة، يستطيع تاريخ تطور العلم أن يتأكد من صدقها أو كذبها لاحقا.

إن أطروحة صاحب النص إذ تؤكد على ارتباط النظرية بالخيال، تطرح إمكانية اختبار الخيال التوقعي لنظرية ما، كما يمكن اعتبار الخيال العلمي، ليس خيالا دائما، بل إنه فرضيات أو تخمينات غريبة عن العلم في البداية، لكنها قابلة للتحقق التجريبي لا حقا.

لذلك يخلص صاحب النص إلى أن الخيال العلمي هو ضرورة للنظرية شريطة أن يكون جزئيا قابلا للتحقق التجريبي.

يستعمل صاحب النص مجموعة من المفاهيم الأساسية لبناء أطروحته، مثل النظرية والخيال والواقع والاختبار. فالنظرية في العلم هي بناء عقلي فرضي استنباطي تتضمن مفاهيم وقوانين، ومجال محدد تدرسه، وتحيل إلى العقل دون أن تقطع مع عالم التجربة. بينما الخيال هو القدرة العقلية على إبداع عوالم وتصورات مستقبلية لا ترتبط بالواقع بصفة مباشرة، والخيال هو قفزة نظرية نحو المستقبل يصعب تحديدها أو تدقيقها، بينما الواقع هو المعطى الخارجي الذي يمكن إخضاعه للتجريب. والاختيار هو عملية التأكد من صدق أو كذب الفروض التي ينطلق منها العالم في مجال من مجالات العلم.

يدافع صاحب النص عن أطروحته باستعمال بنية حجاجية تقوم على الشرح والتفسير والنقد، فهو يقول إن مصدر بناء النظرية هو الواقع التجريبي والخيال، ويقدم مثالا في تاريخ الفلسفة والعلم، وهو مثال "ديمقراطيس" الذي اعتبر كل شيء يتكون من ذرات، ثم ينتقد أولئك الذين يعارضون أهمية "الخيال التوقعي لنظرية ما" قائلا "لا ينبغي أن نتهور ونعارض أي خيال توقعي".

مناقشة:


يمكن دعم أطروحة صاحب النص بأطروحة "روني توم" التي تؤكد بدورها على دور الخيال في التجريب وإبداع المفاهيم، فالخيال تجربة ذهنية تمنح الواقع العلمي غنى كبيرا. فكثير من التجارب اليوم، وخاصة في مجال الميكروفيزياء أو الخلية، تعتمد الصور والنماذج والأثر بدل الأشياء والوقائع. كما يمكن دعم أطروحة صاحب النص جزئيا، بموقف الفيزيائي والفيلسوف "إنشتاين" الذي يعترف بالقدرة الإبداعية للعقل البشري، فالمفاهيم العلمية لا تنتج انطلاقا من العالم الخارجي، ولا في التجربة الواقعية فقط، بل مصدرها، يوجد في الخيال المبدع والخلاق للعقل الرياضي.

ومع ذلك لا يمكن إهمال أهمية التجريب في بناء النظرية، لقد أصبح العلم ممكنا عندما أصبح الواقع الخارجي يقبل الملاحظة والمعاينة والقياس، وقد طور "كلود برنار" المنهج التجريبي في البيولوجيا والطب، وهو منهج يرى أن التجربة هي أساس بناء النظرية العلمية، وكل الاتجاه الوصفي أو الاختباري يذهب في اتجاه انتصار نموذج العلم التجريبي على الخيال العلمي. غير أن أعمال "غاستون باشلار" في مجال إبستيمولوجيا الفيزياء و الكيمياء، تبين أهمية الحوار بين العقل والتجربة، بين الخيال المبدع والواقع التجريبي المتحرك. فالواقعي يوجد في قبضة ما هو عقلي، وما هو عقلي لا ينفصل عما هو تجريبي- وهذه أطروحة إبستيمولوجية نجد أساسها الفلسفي عند الفيلسوف النقدي "كانط" إذ لا توجد عقلانية فارغة بدون مضمون، كما لا توجد اختبارية عمياء. فهناك إذن جدلية بين الواقع والعقل أو بين النظرية والتجربة.

التركيب:


يمكن أن نستنتج، انطلاقا من تحليلنا ومناقشتنا لأطروحة صاحب النص، أن النظرية العلمية هي بناء عقلي يرتبط من جهة بالوقائع التجريبية، كما ترتبط من جهة ثانية بالقدرة الخيالية والإبداعية للعقل العلمي.

إن المفهوم العلمي ليس صورة مطابقة للظاهرة، كما أنه ليس بخيال محض، بل هو إعادة بناء مستمر للواقع الذي لم يعد معطى خارجيا، بل أصبح واقعا مبنيا، فليس الخيال هو الابتعاد الكلي عما هو تجريبي، بل هو تجربة ذهنية يصعب إخضاعها لخطوات المنهج التجريبي في صورته الكلاسيكية.

لذلك يمكن القول، إنه لا توجد نظرية علمية عقلية أو خيالية خالصة، كما أنه لا توجد تجربة علمية مستقلة عما هو خيالي. إن الخيال هو مكون أساسي للنظرية العلمية، وهو ما يعطي للعلم غناه وتنوعه، وكذلك أزماته وأخطاءه.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-