تحضير نص المنهج الاجتماعي : نبيل راغب
المجزوءة الرابعة : مناهج نقدية حديثة ـ المنهج الاجتماعي :
نص نظري :
المنهج الاجتماعي : نبيل راغب
إشكالية النص وفرضيات القراءة:
عرف النقد العربي تحولات في تصوراته وأسسه على مستوى التنظير أو التطبيق كالخطابات الأخرى بفعل مجموعة من العوامل أبرزها الانفتاح على الثقافة الغربية، وانتشار التعليم والصحافة، والثورة النقدية في مجال الأدب أخرجت النقد من المعيارية والتجزيئية والانطباعية إلى نقد مؤسس على مبادئ علمية، فأصبحت قراءة الأدب تستمد مفاهيمها وأدواتها الإجرائية من علوم إنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم اللغة ونظريات الأدب، وتفسر الظاهرة الأدبية اعتمادا على مرجع خارجي يشرط إنتاج المعنى أو يولده، أو على اشتغال البنيات التي تفجرها لغة النص.
لقد تنوعت المناهج النقدية الحديثة بحسب تنوع مكونات النص الأدبي ومقوماته؛ فلأنه كيان لغوي، كان موضع بحث من اللسانيات التي وفرت للناقد أدوات دقيقة تسبر أغوار البنية الناظمة للنص، وبما أنه يصدر عن مرسل له تركيب نفسي، يتحكم فيه منطق الرغبات المكبوتة، ولغة الوعي واللاوعي، فقد وجدت السيكولوجيا طريقها إليه، وكونه يعكس حال المجتمع وعاداته وتقاليده والبنيات العقلية التي تشكل بنية وعي جمعي ينتمي إليه الكاتب، ويجسده في عالم تخيلي يستبدل به شكل الواقع فقد مثل علم الاجتماع إطارا مرجعيا نظريا لقراءته. هكذا قام المنهج الاجتماعي على تفسير النص الأدبي بربطه بمحيطه وشروط إنتاجه. وهو أحد أهم المناهج النقدية الغربية الواسعة الانتشار بين النقاد العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، رصدوا تطوره، واستخلصوا قواعده، وصنفوا مدارسه. ومن هؤلاء حسين الواد، وشكري عياد، ونبيل راغب الناقد المصري صاحب "موسوعة النظريات الأدبية" الذي أُخذ منه النص الذي بين أيدينا.
فما قضيته؟ وما المفاهيم المؤطرة لها وما إطارها المرجعي؟
يتكون العنوان من مصطلحين: "المنهج" وهو اسم معنى عام دال على مسلك وتخطيط وترتيب وسنن ما، ;"الاجتماعي" وهو نعت يُضمر مفهوم "المجتمع"، لكن إلحاقه بالمنهج عبر ياء النسب جعله سمة مميزة له عن المناهج النقدية المتعددة. ومن خلال عبارتي: "بعد مدام دي ستايل ... السوسيولوجية في الأدب"، و"لم تتبلور النظرية السوسيولوجية ... ولوسيان ﮔولدمان"، نُدرك أن الكاتب يرصد تطور المنهج الاجتماعي. وهي دلالة توسع إيحاء العنوان وتجعلنا نفترض أن النص دراسة نقدية تعالج تطور المنهج الاجتماعي من التأسيس إلى التأصيل فالتبلور، وتبين طبيعته وسماته المميزة، وأدواته.
تكثيف معاني النص:
يتمفصل النص إلى حزمة من التمفصلات الفكرية الآتية
ـ تطور المنهج الاجتماعي من مرحلة التأسيس مع مدام دي سْتايل (العلاقة بين الأدب والمجتمع والسياسة)، ودي بونالد (الأدب لتعبير عن المجتمع)، إلى مرحلة التأصيل مع إيبوليت تين (حتمية الأدب أسباب حدوثه، وتذوقه رهن بتعرف إطاره الاجتماعي)، إلى مرحلة التبلور مع جورج لوكاتش ولوسيان ﮔولدمان، الذي أسس علم الاجتماع البنيوي التكويني على خمس فرضيات جمعت بين البنيوية والسوسيولوجيا في منظومة نقدية تحلل المضمون الاجتماعي في ضوء الشكل الفني الذي تتبلور بنيته من خلال تحليل يساعد المتلقي على تكوين رؤية خاصة للعالم والمجتمع والحياة.
عرض الكاتب للفرضيات الخمس المؤسسة للبنيوية التكوينية
* الفرضية الأولى تصل المجتمع والخلق الأدبي بالأبنية العقلية حيث تتبلور المقولات والمفاهيم الاجتماعية، لتشكل الوعي الحياتي لمجموعة ما عبر عالم تخييلي يخلقه الأديب.
*الفرضية الثانية تعتبر الأبنية العقلية أساس الحياة الاجتماعية بتجلياتها المادية والفكرية والإبداعية، وأبنية مقولات دالة.
*الفرضية الثالثة تؤكد على العلاقة بين بنية وعي المجموعة الاجتماعية وعالم العمل الأدبي، حيث يوجد تماثل دقيق ينطوي على علاقة دالة بسيطة.
*الفرضية الرابعة تتعلق باعتبار أبنية المقولات مصدر الوحدة العضوية والبنيوية والأدبية للعمل الأدبي.
* الفرضية الخامسة ترفض المنظور السيكولوجي الذي يحصُر أبنية المقولات في التصنيفات المجردة للوعي واللاوعي، وتؤكد أن أبنية المقولات تحكم الوعي الجمعي، وتتحول إلى عالم تخيُّلي يخلقه الفنان، ولا يصدر عن لاوعي أو كبت مسبق.
ـ قيام النقد، بناء على هذه الفرضيات، على عمليتي الفهم (البحث في البنية الدالة المتأصلة المحققة للتلاحم الداخلي للنص)، والتفسير (إدماج هذه البنية الدالة، كعنصر مكون، في بنية أكبر وأشمل). والفهم والتفسير عملية واحدة ترتبط بزوايا نظر مختلفة تحكمها البنية المحيطة باعتبارها موضوع الشرح والفهم، وينقلب ما كان شرحا ليُصبح فهما، مما يُحتم على الناقد في مرحلة الشرح أن يتصل ببنية جديدة أوسع.
التحــلــيـــــل :
1ـ الإشكالية المطروحة :
تتعلق إشكالية النص بقراءة الأعمال الأدبية قراءة تفسيرية تربطها بشروط إنتاجها الاجتماعية، أي دراسة المنجز الأدبي من زاوية صلته بالمجتمع والبيئة التي أفرزته، ويُعرف بالعقل الاجتماعي، حيث الواقع سابق على الوعي، ومن ثم فالنقاد الذين يتبنون المنهج الاجتماعي يرفضون تفسير العمل الأدبي استنادا إلى الانعكاس المتبادل بين الأديب ونصه؛ لأنهما معا إفراز اجتماعي.
2 ـ المفاهيـــم :
يتوزع النص حقلان مفهوميان
- المفاهيم الأدبية : التعبير، الشكل، الخيال، الخلق الأدبي، عالم العمل الأدبي، الوحدة العضوية والبنيوية ، بنية دالة شاملة..
ـ المفاهيم الاجتماعية : النظرية السوسيولوجية، علم الاجتماع البنيوي التوليدي، رؤية خاصة للعالم وللمجتمع، حياة المجتمع، الأبنية العقلية، المقولات أو المفاهيم ، مجموعة اجتماعية ، ظواهر اجتماعية، بنية وعي، الواقع الاجتماعي التاريخي، الوعي الجماعي، ذات جماعية، بنية شاملة..
وتهيمن المفاهيم الاجتماعية في النص على ما عداها، لأن الأمر يتعلق بتشريح مفهوم المنهج الاجتماعي ورصد مراحل تطوره، وتحديد إمكاناته. وتُستمد المفاهيم الاجتماعية من حقل علم اجتماع الأدب، وتلعب دورا هاما في إضاءة القضية المطروحة في النص.
3 ـ القضايا المتفرعة عن الإشكالية :
تفرعت عن هذه الإشكالية بعض القضايا النقدية، منها:
أ ـ العمل الأدبي الخلاق رؤيا للعالم:
الرؤيا للعالم تصور معين للمجتمع والإنسان والطبيعة والوجود، يعبر عنه الأديب تحت تأثير مجموعة من العوامل الذاتية والاجتماعية. وتتسم بالشمول والانسجام والتماسك الفكري والعاطفي المجسد في المواقف الكلية المتخذة تجاه المشاكل الأساسية التي تفرزها العلاقات بين الناس، وبينهم وبين الطبيعة. ويربط ﮔولدمان في هذا الصدد بين الوعي والحياة الاجتماعية، ويعرف الوعي بأنه مظهر معين لكل سلوك بشري يستتبع تقسيم العمل، ويستتبع عنصرا معرفيا، مما يجعلنا نفترض في كل واقعة وجود ذات عارفة وموضوعا للمعرفة، ويميز بين نوعين من الوعي وعي فعلي يرتبط بالمشاكل التي تعاني منها المجموعة الاجتماعية [الواقع]، ووعي الممكن يتصل بالحلول التي تغير الواقع وتطرح بدائل جديدة. وإذا كان الوعي الفعلي لطبقة ما هو ما تعرفه عن واقعها في فترة معينة وبلد بعينه، فإن الوعي الممكن هو أقصى ما يمكن لطبقة أن تعرفه دون أن تعارض المصالح السوسيواِقتصادية المرتبطة بوجودها. ويعطي ﮔولدمان الأولوية للوعي الممكن، لأن العمل الأدبي ليس انعكاسا لوعي فعلي، بل لوعي ممكن يتحول إلى رؤيا للعالم متى كان منسجما ومتماسكا وشاملا.
ب ـ الوحدة العضوية والبنيوية للعمل الأدبي:
تكشفها عمليتي الفهـم أي وصف للبنية الدالة للعمل الأدبي، وهي بنبة نصية سطحية، والتفسيـر أي دمج تلك البنية الدالة في بنية أوسع وأشمل، هي البنية العقلية الناتجة عن الوعي الاجتماعي لفئة ما.
وهما مصطلحان مترابطان: الأول أضيق من الثاني، لأن الثاني يحتويه ويتجاوزه، ومن هنا كانت البنيوية (الفهم)، والتكوينية (التفسير). والناقد البنيوي التكويني يسعى إلى وضع البنية السطحية ضمن بنية عميقة تشكل الرؤيا العامة الكاشفة عن النواة\ البؤرة. إن البحث عن البنية الجزئية، وإعادة تركيبها يتطلبان رصد ما كان ذا دلالة أساسية. والربط بين البنيتين السطحية والعميقة يجعل للخارج (المجتمع) حضورا في الداخل (النص).
جـ ـ البنية الدالة :
هي المكون الأساسي الذي يمكننا من فهم طبيعة الأعمال الإبداعية ودلالتها، وهي المعيار الذي يتيح لنا أن نحكم على قيمتها الأدبية والجمالية والفلسفية. ويحقق مفهوم البنية الدالة هدفين أحدهما مرتبط بالفهم، والآخر بالحكم، وهو يقصي منظور الانعكاس الميكانيكي بين مضمون النص، ومضمون الوعي الجمعي دون الاهتمام ببنية الشكل وموضوع الجمالية في حد ذاته كما تفعل المناهج الاجتماعية التقليدية، لأن العلاقة الأساسية لا تكون على مستوى المضامين، بل على المستوى البنيوي، فأكثر الأعمال تباينا في المضامين يمكن أن تتوفر على بنية واحدة توافق النزعات التي تحاصر الوعي الجمعي لهاته الطبقة أو تلك.
4 ـ الإطار المرجعي :
استند الكاتب في عرضه لإشكالية النص والقضايا المتفرعة عنها إلى مرجعيات منها :
ـ سوسيولوجيا الأدب حيث ينظر إلى بنية النص الأدبي كنظير Homologue للبنية الذهنية للفئة الاجتماعية التي يعيد الأديب تركيبها في عمله، ويقوم الناقد بالموازاة بين الرؤية التي تحكم بنية العمل الأدبي والمجال الثقافي الذي ينتمي إليه الأديب. ويرى كولدمان أن هناك علاقة جدلية بين المجتمع والنص، لأن النص يجسد وعيا ممكنا لطبقة اجتماعية، يستشرف المستقبل ويتوخى إيجاد صيغ حياتية ممكنة وبديلة للواقع.
ـ علم التاريخ : الأحداث ـ الأسباب ـ الحتمية ..
ـ البنيوية التكوينية : تتوسل بالمعرفة اللسانية في دراسة اللغة باعتبارها نسقا عناصره الأساسية الصوت والمعجم والصرف والتركيب والدلالة، وباعتبارها أداة للتواصل؛ واستخراج البنية المنظمة للعلاقات بين مكونات النسق، أساسي إلا أن قراءة النص لا تقف عند هذا المستوى الوصفي، بل تتجاوزه إلى التأويل والتفسير بوضع البنية السطحية ضمن بنية عميقة مبنينة للمتن، وبالانتقال إلى علاقة خارج / داخل للكشف عن البعد الاجتماعي الجدلي للمتن، فالنص ليس منغلقا، بل هو إفراز اجتماعي ثقافي تاريخي، يعبر بوسائله السرية عن طموحات اجتماعية.
5 ـ طرائق العرض
وظف الكاتب بعض أساليب التفسير كالتعريف (تعريف المنهج الاجتماعي)، والوصف (وصف الفرضيات المؤسسة له)، والسرد (سرد مراحل تطور المنهج الاجتماعي من مرحلة التأسيس والتأصيل إلى مرحلة التبلور)، والمقارنة (بين المنهج الاجتماعي ولمنهج السيكولوجي).
ولعل الغرض من أساليب التفسير رصد تطور المنهج الاجتماعي وجرد مبادئه (الرؤيا، الفهم والتفسير، البنية الدالة). والاستشهاد بالنقاد الغربيين يدل على أن هذا المنهج غربي، وأن أولئك النقاد يشكلون مرجعيته النظرية الأصلية.
وقد اتكأ المعروض النصي على محورين: دياكرونى يقوم على الاستعراض المتدرج لمراحل تطور المنهج الاجتماعي لإبراز انتقاله من مفهوم الانعكاس الآلي بين المجتمع والأدب، إلى النظرة الدينامية القائمة على التناظر بين بنية النص وبنية المجتمع، في أفق الرؤيا الاستشرافية للمستقبل والمساهمة في تغيير الواقع الاجتماعي، وسانكروني يقارب مفاهيم المنهج الاجتماعي من خلال جرد خصائصه، ووصفه واتجاهاته. ويتحدد دور هذين المحورين في بناء موضوع متماسك ومنسجم يتناول منهجا أثار كثيرا من الخلافات بين المنظرين والنقاد، وانتشر على نطاق واسع، وتداخلت حدوده في مراحل تطوره التاريخية.
التركيب والتقويم:
إذا كان المنهج التاريخي الاجتماعي ينظر إلى النص باعتباره انعكاسا لظروف اجتماعية (ثقافة ، سياسة ، اقتصاد..)، وإلى الكاتب باعتباره إفرازا اجتماعيا، فإن المنهج البنيوي التكويني يقوم على منطق العلاقة الجدلية بين المجتمع والنص، لأن النص يجسد وعيا ممكنا لطبقة اجتماعية ينتمي إليها الكاتب، تستشرف المستقبل وتبحث عن بدائل ممكنة للواقع. وقد حاول الكاتب عرض المنهج الاجتماعي والأسس التي قام عليها، وإبراز إمكاناته في معالجة بنية النص، والبحث في البنية المناظرة لها في المجتمع وأنساقه الثقافية والاقتصادية، أو ما يُعرف بالعقل الاجتماعي. وبناء عليه تتأكد صحة افتراضنا بأن النص يعالج مراحل تطور المنهج الاجتماعي ومبادئه الأساسية وإمكاناته التفسيرية. ويتوجس بعض النقاد من المنهج الاجتماعي مخافة حصر الأدب في وظيفته الاجتماعية المباشرة، لأن النقاد لا يصلون إلى تفسير اجتماعي عقلي للأعمال الأدبية الكبرى، إذ يكشف التفسيرُ الداخليُّ وحده أسرارَها، لإن المنهج الاجتماعي يهمل الملمح الجمالي الماثل في الدلالة نفسها. ولهذا الرأي وجاهته، ولكنْ إذا كان للمنهج الاجتماعي حدودا لا يتجاوزها، فإن ذلك لا يُلغي إمكاناته العديدة التي لا يستطيع غيره من المناهج توفيرها.