قراءة في مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" لعبد الكريم برشيد


ابن الرومي في مدن الصفيح


المكون : درس المؤلفات                   

           قراءة في مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" لعبد الكريم برشيد

                                                                                                                                                  

تقديم

الفن المسرحي نشاط إبداعي قديم، بدأ بشكل ناضج عند اليونان، يقوم على التشخيص، ويستثمر اللغة إلى جانب الحركات والإشارات، ويتأسس على جملة من المكونات كالشخصيات والفضاء والجمهور، وما يتعلق بالنص وعناصر تهم العرض وأخرى مرتبطة بالتلقي.

   اشتهر المسرح اليوناني بنوعين من المسرح: المأساة (التراجيديا)، والملهاة (الكوميديا)، لكن المسرح فيما بعد تطور وتداخلت موضوعاته لتشمل قضايا اجتماعية ومشاكل يومية ومآس فردية وجماعية فألغيت الحدود بين الملهاة والمأساة لتؤسس الدراما الحديثة.

   لم يكن لدى العرب مسرح بالمفهوم الذي ظهر عند اليونان، لكن الحياة العربية سجلت مشاهد وفنون ومواقف مرتبطة بشكل من الأشكال المسرحية مثل: خيال الظل واحتفالات الأعياد والمواسم التي استخدم فيها التشخيص بكل أبعاده، لكن الفن المسرحي المقعد انتقل إلى العالم العربي في بداية النهضة العربية مع الاتصال بالغرب عبر البعثات أو الاستعمار، فظهرت فرق في مصر وبلاد الشام اعتمدت نصوصا مترجمة في الغالب، ثم تطور المسرح العربي تدريجيا على مستوى التأليف والتشخيص حتى أصبح اليوم متأصلا متنوعا تتجاذبه تيارات متعددة. وتعتبر مسرحية ابن الرمي في مدن الصفيح محاولة من محاولات المسرح العربي في المغرب لإثبات الخصوصية العربية في التأليف و العرض في آن واحد.

  أبرز خاصية يتميز بها المسرح أنه خطاب يتشكل من دلائل ورموز وعلامات يتداخل فيها ما هو لغوي بما هو غير لغوي، وماهو معرفي بما هو فني وجمالي، إضافة إلى الارتباط بالوهم والتخيل واللعب في الإنجاز التمثيلي، لذلك يتشكل الخطاب المسرحي من عدة نصوص مختلفة متداخلة ومتكاملة هي: النص الدرامي والنص السينوغرافي والنص المعروض ونص الجمهور.


المسرح الاحتفالي

  نستند هنا، إلى بيان مجموعة الاحتفالية في مراكش الصادر سنة 1979 ثم إلى الشروح التي قدمها عبد الكريم برشيد نفسه في بعض كتبه النظرية والنقدية. وقد حصر مبادئ الاحتفالية في ما يلي:

- تؤمن الاحتفالية، في المقام الأول، بأسبقية الحياة على الفكر. فالاحتفال فعل حيوي يحمل في ذاته إحساسه وفكره .

- الاحتفالية تعادي السكون والثبات كما تخرج من دائرة الاتباع والاتفاق إلى أفاق الإبداع والاختلاف.     

- تلتزم الاحتفالية بكل فكر تقدمي ينادي بمبادئ الحرية والعدالة وكرامة الإنسان .                                  

- الإنسان هو مالك حق التعبير الحر عن الرأي الحر في مجتمع يفترض أيضا أن يكون حرا.             

- الاحتفالية تتجنب، قدر الإمكان، السقوط في الإيديولوجيا لكنها تعادي المادة والآلية التي هي ضد أنسنة  الإنسان.

- تقبل الاحتفالية بالتجريب في الفن المسرحي والبحث ومحاورة الذات والثقافات الأخرى. 

- الاحتفالية هي لقاء حي مباشر، يقوم على الحوار والمشاركة بالإشارة والحركة والإيماء والرقص والغناء والتراتيل، لذلك فهي تحاول ل دائما إلغاء الحدود بين الجمهور والمنصة. 

- يجب أن تختزل الاحتفالية ثقافة بكاملها، فهي سلوك وآداب وغناء ورقص وأزياء وحناء وعمران وعادات وأهازيج ومعتقدات  وحكايات وأمثال وحكم مختلفة.

ويرى حسن المنيعي أن الاحتفالية ظهرت في المغرب في بداية السبعينات دون أن تكون منقطعة الصلة مع واقع الفرجة في التراث العربي ومع بعض النظريات الغربية. أما مفهوم الاحتفال، فهو لقاء حي تتواصل  فيه الذوات ، وهو ثورة ضد المألوف و العادي تؤدي إلى "الإدهاش " أي إلى إدراك المعرفي الذي يؤدي بدوره إلى التجاوز، تجاوز التناقضات القائمة في المجتمع والعمل على تغييرها (...) وهو بالأساس تطلع إلى المستقبل وحركة مستمرة تبدد كل ثبات وسكونية.

    والاحتفالية تحقق هذا الغرض بعرض أفعال حيوية، تستلهم الحكايات والأساطير والعادات والتقاليد والاحتفالات الشعبية من أجل أن تعيد عيشها بطريقة جديدة، مخالفة بذلك صرامة المسرح الدرامي الذي "يحيي ما كان كأنه جلسة لتحضير الأرواح".

     و الاحتفالية، بوصفها تجربة معرفية، هي بمثابة ثورة مسرحية، لأنها تحول المسرح إلى مجال لمحاسبة التجربة المسرحية نفسها أو خلق ما يسمى بالمسرح داخل المسرح أي تحويله إلى تمسرح  (théatralité).  و قد عبر عبد الكريم برشيد أيضا عن حقيقة هذا التوجه الجديد الموسوم بإدراج الحس النقدي داخل الحركية المسرحية في تجاربه الخاصة.

     و الأهم من ذلك كله هو ضرورة تمييز الاحتفالية عن المسرح التأصيلي القومي الذي دعا إليه يوسف إدريس وعلي الراعي وتوفيق الحكيم، فلا وجود للاحتفالية في رأي عبد الكريم برشيد إذا ما كان هناك تقديس للتراث ووعي خاطئ بحقيقة الشخصيات التاريخية أو انسياق مع ثنائية النحن والآخر. ينبغي للاحتفالية أن تؤكد حضور الذات الإنسانية العامة وعلاقات الذوات الفردية داخل هذا الحضور الكوني، مع تأكيد الحق في الوجود والاختلاف، وتكوين رؤية للعالم وتطوير الإبداع والتجربة. الخ 

    وعلى العموم، يمكن إعادة تلخيص ما أشرنا إليه بخصوص تحديد مفهوم الاحتفالية في ما يلي:

- الاعتماد على عفوية اللقاء والحوار بين الممثلين، وعلى المبادرات الآنية التي تأتي عفو الخاطر.

- إبراز عنصر (الإدهاش) بابتكار أفكار ومواقف جديدة يكون لها دور في تقوية وعي الجمهور.

- إبراز التناقضات الاجتماعية والعمل على تجاوزها بتغيير الواقع واستشراف آفاقه. 

- استلهام الاحتفالات الشعبية والوقائع التاريخية والحكايات والأساطير والتقاليد، وتوظيفها بمنظورات  جديدة.

- تجديد العرض المسرحي بخلق وعي الوعي داخل المسرح أي المسرح داخل المسرح (مثال: ابن دنيال يمثل دور الحاكي بخيال الظل، لكنه قبل التمثيل يناقش ويعلق ما سيحدث فيه. وبعد اكتمال الأحداث يعود إلى التعليق من جديد).

     - تحطيم الحدود التقليدية الموجودة بين الخشبة والجمهور (يدخل ابن الرومي من جهة الجمهور يجر عربة خيال الظل مصحوبا بابنته دنيازاد).

 

القراءة التوجيهية : عتبات النص

- عتبة المؤلَّف (المسرحية)

      كتب "عبد الكريم برشيد" مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" في خريف 1975 بمدينة الخميسات، وانتهى من كتابتها في متم  نفس السنة  بمدينة الدار البيضاء. نشرت  لأول مرة على صفحات مجلة *الآداب البيروتية* في عددها الثالث سنة 1978. بعد ذلك في مجلة *الفنون المغربية* في عددها الأول من سنة 1979. لتظهر في حلة جديدة سنة 2006 حيث قامت دار النشر *إديسوفت البيضاء* بطبعها ونشرها.  

في ربيع 1979  قدمت مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بمراكش، حيث حازت على جائزة أحسن نص مسرحي، وقد تزامن هذا التقديم مع تأسيس جماعة المسرح الاحتفالي وصدور بيانها الأول. يقول برشيد في هذا الصدد : "لقد كتبت هذه المسرحية قبل ظهور البيان الأول للمسرح الاحتفالي سنة 76. وبالرغم من ذلك فقد جاءت تحمل كل إرهاصات المسرح الاحتفالي..". 

    إن النص المسرحي "ابن الرومي في مدن الصفيح" عبارة عن سلسلة من اللوحات تعكس كل واحدة منها حدثا من الأحداث، كل لوحة تجسد عملا فنيا متكامل الأجزاء، فهي ورشة بحث في عناصر الصراع التاريخي والطبقي بين شرائح المجتمع العربي انطلاقا من عصر ابن الرومي وانتهاء بعصر مدن الصفيح.


- عتبة المؤلِّف (عبد الكريم برشيد)

     ولد عبد الكريم برشيد بمدينة بركان سنة 1943م. أتم دراسته الثانوية والجامعية بمدينة فاس حتى حصوله على الإجازة في الأدب العربي ببحث يهتم بتأصيل المسرح العربي. وفي عام 1971م، أسس فرقة مسرحية في مدينة الخميسات لاقت عروضها الاحتفالية صدى طيبا لدى الجمهور المغربي والعربي أيضا. وقد حصل على دبلوم في الإخراج المسرحي من أكاديمية مونبولي بفرنسا. ودرس بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط. وفي 2003م، حصل على الدكتوراه في المسرح من جامعة المولى إسماعيل بمكناس. كما تولى مناصب هامة وسامية مثل مندوب جهوي وإقليمي سابق لوزارة الشؤون الثقافية، ومستشار سابق لوزارة الشؤون الثقافية، وأمين عام لنقابة الأدباء والباحثين المغاربة، وعضو مؤسس لنقابة المسرحيين المغاربة. وقد كتب عبد الكريم برشيد الرواية والشعر والمسرحية والنقد والتنظير. وساهم في بلورة نظرية مسرحية في الوطن العربي تسمى بالنظرية الاحتفالية.

ومن إصداراته:

1. عطيل والخيل والبارود وسالف لونجة، احتفالان مسرحيان، منشورات الثقافة الجديدة سنة 1976؛ 

2. امرؤ القيس في باريس، منشورات الستوكي ووزارة الشبيبة والرياضة 1982؛ 

3. حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1983؛ 

4. المسرح الاحتفالي، دار الجماهيرية بطرابلس ليبيا 1989-1990؛ 

5. اسمع ياعبد السميع، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1985؛ 

6. الاحتفالية: مواقف ومواقف مضادة، مطبعة تانسيفت بمراكش سنة 1993؛ 

7. الاحتفالية في أفق التسعينات، اتحاد كتاب العرب، دمشق سوريا سنة 1993؛ 

8. مرافعات الولد الفصيح، اتحاد كتاب العرب، دمشق سوريا؛ 

9. الدجال والقيامة، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة بمصر؛ 

10. المؤذنون في مالطة، منشورات الزمن؛ 

11. غابة الإشارات، رواية، مطبعة تريفة ببركان سنة 1999؛ 

12. ابن الرومي في مدن الصفيح، مسرحية احتفالية يتقاطع فيها ما هو اجتماعي معاصر مع ماهو تراثي وأدبي تاريخي، النجاح الجديدة بالدار البيضاء سنة 2005؛ 


دواعي تأليف المسرحية

     غالبا ما تترك دواعي تأليف الأعمال الأدبية لتقديرات القراء أو لمضامين النص، حيث يمكن أن تستخرج منها إما بشكل مباشر أو ضمني. والحال أن عبد الكريم برشيد لم يحدثنا مباشرة عن دواعي تأليف المسرحية، لكن الظروف التاريخية التي نشرت فيها أول مرة (سنة 1978) كانت طافحة بالمعاني والدلالات. ففي أواخر السبعينات من القرن الماضي كانت الحاجة إلى تغيير الواقع العربي المأزوم سياسيا واجتماعيا تدعو كثيرا من التيارات الفكرية والإديولوجية إلى المناداة بضرورة إصلاح المجتمعات العربية، لما كان يلاحظ فيها من تفاوت اجتماعي بين الطبقات، وما كانت تعانيه الفئات الفقيرة على الخصوص من مشاكل وضغوط واستغلال؛ ولذلك فاهتمام مسرحية ابن الرومي بمدن القصدير له دلالة واضحة. على أن أسباب تأليفها هو معالجة قضية الفقراء والمهمشين في المدن العربية؛ غير أن اختيار الشكل المسرحي بالذات لمعالجة هذا الموضوع المركزي كانت له دوافع فنية وثقافية عبر عنها الكاتب في حديثه عن الاحتفالية، وهو ما بيناه سابقا عند التعريف بها. فقد كانت الغاية هي تجديد المسرح العربي وجعله يتسم بالطابع المحلي. وهذا ما يفسر اللجوء إلى التراث العربي، وإلى الشخصيات المرموقة فيه، وتوظيفها من أجل أداء دور ايجابي في الواقع، بالإضافة إلى الاستفادة من العادات ومظاهر الاحتفال في الحياة العربية. لذا فدواعي التأليف كما نرى هي:

 ـ أولا: اجتماعية وسياسية، غايتها إثارة الانتباه إلى الوضع المزري للطبقات الفقيرة في المجتمع، والدعوة إلى تغيير واقعها المأساوي.

 ـ ثانيا: إبداعية وفنية، غايتها تحويل المسرح إلى نوع أدبي مطبوع بالخصوصيات العربية. وذلك من خلال توظيف التراث بجميع مظاهره ومكوناته الاحتفالية.


  عتبة العنوان :

 يتضمن عنوان المسرحية مفارقة أخرى مثيرة للانتباه: ابن الرومي في مدن الصفيح، وهي مفارقة مؤسسة، كما نرى، على شقين:

    ابن الرومي: الشاعر المعروف الذي عاش في العصر العباسي بين سنتي (836 -896 م)، وهو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج أو جورجيس الرومي. شاعر كبير من طبقة بشار والمتنبي، رومي الأصل، كان جده من موالي بني العباس. ولد ونشأ ببغداد، وقيل مات مسموما على يد أحد وزراء الدولة العباسية، وكان تعرض له بالهجاء. ومن أشهر الخصال النفسية التي طبعت شخصية الشاعر نزعة التشاؤم والتطير، ولذلك عاش بئيسا قلقا متوترا سيئ الحظ.

    مدن الصفيح: وهي عبارة متداولة، على الخصوص في المغرب، للدلالة في وقتنا الحالي على أحياء قصديرية تكونت في العصر الحديث مع بداية الاستعمار الفرنسي بسبب هجرة أهل البوادي إلى المدن من أجل العمل في المراكز الصناعية، لكنها توسعت كثيرا فيما بعد بعوامل أخرى كالجفاف وفقدان الأراضي الزراعية وسوء توزيع الثروات بين الطبقات الاجتماعية إلى أن أصبحت مدنا حقيقية تتراكم فيها المشاكل الاجتماعية والصحية. 

     يحمل العنوان، إذن، دلالة مفارقة تقوم بدور الإغراء من أجل معرفة كيف ستكون عليه شخصية تاريخية معروفة استقدمت من التاريخ القديم لتعيش في مدن الصفيح في عصرنا الحالي.       


تحديد الجنس الأدبي: 

    يتضمن الغلاف أيضا عبارة تحدد نوعية النص، كتبت تحت عنوان المسرحية مباشرة إلى اليسار: "نص مسرحي" وبذلك تتأسس العلاقة التعاقدية بين الكاتب والقراء على الوضوح التام. فالعمل ليس رواية ولا نصا شعريا بل هو مسرحية تعتمد التشخيص والحوار مادتين أساسيتين في بنائها، وفي نفس الوقت تؤطر تلك العبارة النص في نطاق الأعمال الأدبية التخييلية، وقد قدمنا تعريفا بفن المسرح في بداية هذا الفصل.


  عتبة الـغـلاف :

أ‌- الواجهة الأمامية لغلاف المسرحية

    يتآزر التصريح بنوعية العمل، مع الصورة الفوتوغرافية الملونة التي توجد في القسم الأسفل من الغلاف، وهي بالفعل تمثل لقطة مسرحية يتفاعل فيها خمسة ممثلين: ثلاثة رجال وامرأتان في وضعية حركية تشخيصية وتجاوبية تدل على وجود حوار وانفعالات جارية بينهم. وفي الخلفية تبرز معالم الديكور، وهي تمثل مبان عتيقة تطل من ورائها صومعة مضاءة، لكن هذه المباني ليست من الصفيح كما ورد في العنوان. واللون الغالب على وجه الغلاف هو اللون الأسود، فهل لذلك علاقة بتشاؤم ابن الرومي؟ هذه مجرد قراءة افتراضية لصورة الغلاف لا تلزم بالضرورة القراء جميعهم. وتحت الصورة نقرأ العبارة التالية التي تتكلف بتحديد نوعية الاتجاه المسرحي الذي ينضوي تحته النص: احتفال مسرحي في سبع عشرة لوحة، وهذا يقودنا إلى مزيد من التدقيق في هوية المسرحية، فهي من النوع الاحتفالي الذي دعا إليه الكاتب عبد الكريم برشيد وغيره من رواد المسرح المغربي مند أواسط السبعينات من القرن الماضي. 

ب‌- الواجهة الخلفية لغلاف المسرحية 

     يحتوي الغلاف الخلفي على صورة ملونة للكاتب عبد الكريم برشيد، تقوم بشبه تعريف لمعالم وجه هذه الشخصية لمن لم يسبق لهم أن تعرفوا عليها أو لتأكيد مطابقة الاسم على الشخصية بالنسبة لمن يعرفونه. أما الكتابة التعريفية فهي تؤكد المؤهلات العلمية والمناصب الإدارية لا غير. أما المساهمات الإبداعية والعلمية فيشار إليها أسفل الواجهة الخلفية. وهذا يعني أن التعريف بالمكانة الاجتماعية والعلمية تبوأ منزلة بارزة على حساب التعريف بالمكانة الأدبية. وتحت عنوان هذا المؤلَّف، يثبت المؤلف فقرة من ثمانية أسطر موقعة باسمه تمثل خطابا تقويميا واصفا يقدم في الواقع تحديدا دقيقا لموضوع المسرحية قائم على ثنائيات تفاعلية متعددة هي ما يكوّن عالم الإنسان. وتأتي هذه الثنائيات على الشكل التالي:

     الماضي والحاضر/ الشرق والغرب/ الفقراء والأغنياء/ الرجل والمرأة/ الكائن والممكن/ الأضواء والظلال/ الأجساد والأشباح/ الأحلام والأوهام/ المسرح وما وراء المسرح/ الوجوه والأقنعة.                                                                         

   هذه الفقرة التعريفية بالمسرحية تمثل قراءة ذاتية، لأنها صادرة عن كاتب المسرحية نفسه، وهي نوع من الاستباق غير المرغوب فيه عادة من قبل القراء والنقاد على السواء، لأنها تحد، ولو افتراضيا، من حرية التمثل والتفاعل الحر مع النص، على أنها قد تقدم خدمة مجانية لمن ليس لهم صبر على قراءة كاملة للكتاب ما دامت تضع أمامهم خلاصة مركزة عن طبيعة تركيب المسرحية، وأنماط الصراع فيها وأهدافها الإنسانية.


القراءة التحليلية

 المتن الحكائي :

    فضاء المسرحية امتداد لكل المدن العربية التي تعيش وطأة التهميش والفقر، سكانها بسطاء، حرموا من أدنى شروط العيش. وتطرح المسرحية إلى جانب هم الإنسان في بلوغ قوته اليومي، هاجس المكان/المأوى كهدف ثان في حياة متقلبة. ليصير الإفراغ وحلول البنايات الجديدة الشاهقة عوض الواقع- الحي القصديري- آفة مجتمع الحي. وتحضر عريب رغم واقع المجون لتنقذ ابن الرومي من عزلته و تخرجه إلى معانقة هموم ومشاكل ذاته/المجتمع. 

  تضم مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" سبع عشرة لوحة احتفالية تجسد عالمين: عالم الخيال وعالم الواقع.

يدخل ابن دنيال صاحب خيال الظل بعربته الفنية ليقدم فرجته للجمهور مع ابنته دنيازاد التي تذكرنا بأسماء شخوص ألف ليلة وليلة. لكن المسؤول عن الستارة يرفض السماح له بالدخول مادام العرض المسرحي لم يبدأ؛ لكنه سيتعرف عليه بعد أن يكتشف أنه من كبار المخايلين المتخصصين في خيال الظل، وقد أتى إلى الركح من أوراق التراث الصفراء ليظهر ما لديه من الحكايات والمرايا بدلا من هذه المناظر والمشاهد التي يسعى أصحابها إلى بنائها جاهدين، وفيها يفصلون الأغنياء عن الفقراء، بينما المسرح حفل واحتفال ومشاركة جماعية.

    ويعرف ابن دنيال بنفسه وابنته، ويقدمان نفسهما للجمهور كراويين سيقدمان له مجموعة من شخصيات خيال الظل قصد تسليته وإفادته، وابن دنيال المخايل نزل من التاريخ المنسي إلى هامش الحاضر ليزرع بشارته وأمله في المستقبل. بعد ذلك، يتحلق الأطفال حول عربة خيال الظل التي تنعكس في ستارتها الظلال والأضواء لتنسج أنفاسا احتفالية من الخيال والواقع، ولتعبر بحكاياها عن فئات مجتمع المدائن والأقطار، قريبة كانت أو بعيدة، بكل تناقضاتها الحياتية.

    وينتقل الكاتب من الخيال، ومن لعبة خيال الظل إلى الواقع، واقع المدينة القصديرية ذات الأحياء الصفيحية حيث نلتقي بسكانها ولاسيما حمدان ورضوان وسعدان، هذه الطبقة الشعبية التي أنهكتها الظروف المزرية كالفقر والداء والبطالة وضغوطات الواقع التي لا تتوقف. يقصد المقدم هذه الفئة ليخبرها بضرورة الرحيل لتحويل هذا الحي الذي لا يناسبهم إلى فنادق سياحية جميلة تجذب السياح وتدر العملة الصعبة على البلد ريثما يجد لهم المجلس البلدي مكانا لإيوائهم في أحسن الظروف. لكن أهل الحي رفضوا هذا المقترح وقرروا أن يكون موعد الرحيل من اختيارهم أنفسهم بدلا من أن يفرض عليهم من فوق، وهو لا يخدمهم لا من قريب ولا من بعيد. وتدل الأسماء العلمية التي يحملها الثلاثة على السخرية والتهكم والمفارقة، إذ يدل حمدان على الحمد وسعدان على السعادة ورضوان على الرضى على غرار عنوان المسرحية الذي يثير الحيرة والاستغراب المفارق.

    ويحاول ابن دنيال أن يستقطب أهل الحي وأطفاله الصغار لكي يقدم لهم فرجة تنعكس على خيال الظل بعوالمه الفنطاستيكية وشخصياته التاريخية والأسطورية؛ لكن هذه الحكايات والقصص لم تعد تثير فضول السامعين وتشد انتباههم. لأنها حسب دنيازاد بعيدة عن واقعهم الذي يعيشون فيه. لذلك اختارت دنيازاد أن يكون الموضوع قريبا من حقيقة المشاهدين يمس مشاكلهم ويعالج قضاياهم ويطرح همومهم، أي: أن يكون المعطى الفني شعبيا. وهذا ما قرر ابن دنيال أن يفعله، أن يحكي لهم قصة الشاعر ابن الرومي في مدينة بغداد التي قد تكون قناعا لكل المدن المعاصرة، كما يكون ابن الرومي الشاعر المثقف قناعا لكل المثقفين المعاصرين.

   بعد ذلك، ينقلنا ابن دنيال عبر صور خيال الظل وظلاله إلى بغداد المعاصرة بأكواخها الفقيرة وأحيائها القصديرية ومنازلها الصفيحية لنجد ابن الرومي منغلقا على نفسه منطويا على ذاته لا يريد أن يفتح بابه على العالم الخارجي ليرى الواقع على حقيقته. ويزداد ابن الرومي الشاعر المنكمش الخائف على نفسه من العالم الخارجي تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس والتطفل عليهم، وجحظة الحلاق الذي كان يزعجه بأغانيه المستهجنة، ودعبل الأحدب بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء، وعيسى البخيل الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير. كل هذه الوجوه الشقية المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر العالم، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين والفقراء التعسين. لذا أغلق بابه على هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه النعم والأفضال من أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان، وخاصة رئيس المجلس البلدي. ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها عشيقة وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي إنسان، سيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار؛ مما جعله يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد المدينة وعالمها الخارجي ليعيش حياته في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل حواسه.               

     ويتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي متكسب لا يهمه سوى الحصول على الأعطيات والمنح من رجال الجاه والسيادة والسلطة، حيث سيشتري رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي الذي يعيش فيه مع أولائك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم من هذا الحي، وهدم أكواخه التي يعشش فيها الفقر والداء والبؤس والنحس وبناء فنادق سياحية تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم.

    ويستمر ابن الرومي في تطيره ونحسه حيث لا يفتح الباب مطلقا ليعرف ماذا وراء عالمه الداخلي المقفل؛ بل كان يطل على الواقع الموضوعي من ثقب صغير في الباب، وكان لا يرى من بغداد سوى جيرانه الأشقياء التعساء، فيزداد تشاؤما إلى تشاؤم، وتسود الحياة في وجهه لولا الحب الذي تغدقه عليه جاريته الحسناء والأحلام اللذيذة التي تسعده في منامه ويقظته.

    وينتقل ابن الرومي كما قدمه الراوي من شاعر متشائم متكسب إلى شاعر حالم مستلب ومغترب عن واقعه الخارجي، يعيش الخيال في واقعه، يركب السحاب وهو عالق بالتراب في كوخه الحقير، يتأفف من جيرانه الذين يحبونه ويحسون بمعاناته أيما إحساس. 

    ويتصالح ابن الرومي مع جيرانه الذين قرروا الارتحال بعيدين عنه حتى يكون سعيدا في حياته ماداموا قد أصبحوا في رأيه رموز الشر والنحس والتطير والتشاؤم؛ لكن ابن الرومي سيتعلم درسا مفيدا من عريب التي صارت حرة بعد انعتاقها من الرق وعبودية العقود المزيفة واختارت العيش معه شرط أن يفتح بابه للآخرين ولجيرانه الذين هم ضحايا لواقع الاستلاب والاستغلال من طغمة الجاه والسلطة، في هذا الحي الشعبي مع هؤلاء الناس الطيبين الأبرياء المزدرين من قبل المسؤولين وأصحاب القرار الذين يريدون ترحيلهم للاستيلاء على حيهم الذي يقطنونه واستثماره في مشاريعهم المدرة للغنى.

    وسيصبح ابن الرومي شاعرا ثائرا يتصالح مع جيرانه، ويمنعهم من الرحيل، ويعترف بأخطائه الجسيمة التي اقترفها في حقهم، وبأن سماسرة السراب هم المسؤولون عن هذا الاستلاب والتخدير الاجتماعي، ويعدهم أن يكونوا يدا واحدة في وجه المستغلين وبائعي الأحلام الزائفة.

    وتختار عريب في الأخير أن تدفع الشاعر إلى معرفة العالم الخارجي لتحريره من خياله وأوهامه وأحلامه وانكماشه الداخلي واغترابه الذاتي والمكاني، فأرسلته ليبحث لها عن خلخالها الذي ضاع منها في السوق؛ وبعد تردد وتجاهل قرر ابن الرومي أن ينزل عند رغبة عريب وأن يبحث لها عن خلخالها.

     تجسد المسرحية - إذن- تقابلا بين عالمين: عالم الكلمة وعالم الحركة، وبين عالم الخيال الحالم والواقع المدقع، إنها ثنائية جدلية تصور صراع المثقف العربي مع السلطة والواقع وأخيه الإنسان. لقد لاحظنا أن ابن الرومي عبر المسرحية مر بعدة مراحل:

1- ابن الرومي الشاعر المتشائم المنكمش

2- ابن الرومي الشاعر العاشق

3- ابن الرومي الشاعر المتكسب والمستلب 

4- ابن الرومي الشاعر الثائر المتحرر من أوهامه. 


    إذ بعد الموت والضياع والاستلاب والانكماش الذاتي والموضوعي يعود الشاعر إلى الحياة مرة أخرى شاعرا جديدا يعانق قضايا الناس وهمومهم ويكابد آلامهم ومعاناتهم ويحارب معهم سماسرة الزيف والسراب، إنه يموت لينبعث من جديد على غرار أسطورة العنقاء التي قوامها الاحتراق والموت والتجدد مرة أخرى، كل ذلك بفضل فلسفة عشيقته عريب التي اقترحت عليه أن يتيه في العالم الخارجي ليعرف الواقع على حقيقته الواضحة دون زيف أو قناع. وهذا ما جعل عبد الكريم برشيد يقر بأن هذه المسرحية شاملة ومركبة من عدة مستويات: "لأن المسرحية تعتمد على بناء مركب. بناء تجسده مستويات متعددة ومتناقضة- مستوى الواقع- ومستوى خيال الظل- الحقيقية- الحلم- الوعي- اللاوعي- الحاضر- الماضي- أل(هنا)- أل(هناك)، ويمكن أن نحصر كل هذه المستويات وأن نختصرها في مستويين اثنين أساسين:

    ـ مستوى الواقع، حيث الأحداث داخل حي قصديري منتزع من نفس المدينة التي تعرض بها المسرحية ومن نفس زماننا. 

    ـ أما المستوى الثاني فيدور داخل صندوق خيال الظل. وهو صندوق المخايل شمس الدين بن دانيال وابنته دنيازاد فيما بينهما. وعلى هذا الأساس فإن قصة ابن الرومي لا يمكن أن ينظر إليها نظرة واحدة موحدة... ولكن من المؤكد أن لها ما يعادلها في الواقع. ثم إن المبدع ليس مطالبا باستنساخ هذا الواقع حتى نطالبه بأن يعكسه لنا عكسا فوتوغرافيا. فالواقع معطى تاريخي ولكنه أيضا حركة لا تعرف الاستقرار. لهذا فالمبدع مطالب بتشريحه في أبعاده المختلفة والمعقدة عبر متغيراته وثوابته من أجل تغييره وخلق المستقبل". 

   ويتبين لنا كذلك أن مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح مسرحية متركبة من لوحتين منفصلتين: لوحة واقع المدينة بأحيائها القصديرية وبؤسها المأساوي وانتشار الفكر الاستغلالي والتفاوت الاجتماعي والطبقي (لوحة الواقع الاجتماعي)، ولوحة ابن الرومي التي يعكسها التخييل الدرامي عن طريق خيال الظل (التخييل التاريخي والتراثي). وداخل هذا السرد التخييلي نجد صراعا بين راو يعيش على أنقاض الماضي والبطولة الضائعة وراو يعيش عصره ويعانق همومه مثل المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي. كما أن المسرحية تزاوج بين الأصالة "ابن الرومي- ابن دانيال" والمعاصرة "واقع المدينة".وتبقى المدينة فضاء دراميا وسينوغرافيا لكثير من الكتابات المسرحية لما لهذا الفضاء المعاصر من آثار سلبية على الإنسان المعاصر بسبب الطابع التشييئي للعلاقات الإنسانية الناتجة عن الرأسمالية الجشعة والليبرالية الاقتصادية الفردية والعولمة التي صارت تغولا من شدة الاحتكار والتغريب وتحييد الأصالة وكل الخصوصيات الحضارية والفكرية للشعوب الضعيفة أو النامية، وهو ما نجده في مسرحيات برشيد الأخرى مثل: إمرؤ القيس في باريس، والنمرود في هوليود أو عند المسكيني الصغير في: عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية، والخروج من معرة النعمان، و في أهل المدينة الفاضلة لرضوان أحدادو، ومرتجلة فاس لمحمد الكغاط، ومدينة العميان لمحمد الوادي، والهجرة من المدينة لعبد الكريم الطبال.

    ويتبين لنا مما سلف، أن مسرحية ابن الرومي هي مسرحية احتفالية اجتماعية واقعية جدلية تستحضر التراث لغربلته وتعريته وتشخيص عيوبه قصد إضاءته من جديد وإعادة بنائه أو ترميمه عبر النقد الذاتي والتغيير الداخلي. وفي هذا الصدد يقول الدكتور مصطفى رمضاني: "برشيد قد وظف شخصية ابن الرومي كرمز للمثقف العربي غير المتموضع طبقيا، لأنه يعيش أزمة التأرجح بين طموحاته الطبقية والإحباطات المتتالية التي يعيشها في المجتمع. لهذا وجدناه يصور ابن الرومي كشخصية مركبة: ابن الرومي الوصولي، ابن الرومي العالم، ابن الرومي الثائر. فابن الرومي شخصية قد خلقها برشيد من خياله حقا."


 الشخصيات الدرامية

- جرد القوى الفاعلة

    الشخصيات الدرامية في المسرحية أقنعة رمزية يمكن تصنيفها إلى أصناف عدة: [شخصيات تراثية تنتمي إلى الماضي الشعبي والأسطوري (ابن دنيال- دنيازاد) والأدبي (ابن الرومي)، تقابلها شخصيات معاصرة تنتمي إلى الحاضر (سعدان- رضوان- حمدان- المقدم- رئيس المجلس البلدي)]، و[شخصيات مثالية مثل: ابن دنيال وابن الرومي، تقابلها شخصيات واقعية مثل: سعدان ورضوان وحمدان وعريب...]، و[شخصيات كادحة مستغلة بفتح الغين مثل: سعدان وحمدان ورضوان وجحظة المغني وعيسى البخيل ودعبل الأحدب وعريب مقابل شخصيات مستغلة (بكسر الغين) تملك الجاه والسلطة والزيف مثل: المقدم والخادم يا زمان ورئيس المجلس البلدي].


- البنية العاملية

      تنتظم جميع القوى الفاعلة في بنية عاملية نرسم معالمها على النحو التالي:

          
المرسل : نزوع التحرر
  المرسل إليه : المجتمع.        
الموضوع : التحرر من الظلم و العبودية والاستغلال.
 المساعد - الوعي بواقع الخيال. - التضامن. - أشعب المغفل.- عاشور الأبله.
الذات - ابن الرومي - جيرانه. - سكان مدن الصفيح - عريب والجواري
المعيق : - رئيس المجلس   - الخادم  – المقدم 
 


   ويلاحظ هنا أن مفهوم الفاعل – في النموذج العاملي – ليس من الضروري أن يكون شخصية، إذ يمكن أن يكون فكرة أو نزعة أو مبدأ أو هيئة. كما هو الحال بالنسبة لنزعة التحرر أو الوعي أو التضامن…إلخ.

    كما نلاحظ أن الصراع يحتدم في البنية العاملية، ويتأزم من الناحية الدرامية بوجود تصادم بين العامل المساعد والعامل المعيق في النص المسرحي بما يمثلهما من شخصيات وفواعل.

    ونشير إلى أن الرهان في مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح يكمن في تحرير الإنسان من العبودية والاستغلال الاجتماعي، وكذا تحرير الذات المتشائمة القلقة من عقدها النفسية، يضاف إلى ذلك زرع قيم التعاطف والمحبة بين أفراد المجتمع. وهكذا فمسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح تفتح كما رأينا باب الأمل في تحقيق الموضوعات المرغوب فيها، ويتجلى ذلك بوضوح في انعتاق عريب من العبودية وتحرر ابن الرومي من سوداويته وانطوائه وخروجه إلى الأسواق، ثم تماسك أهل مدن الصفيح في الدفاع عن منازلهم للحيلولة دون هدمها من قبل أصحاب المشروعات السياحية.

  البعد الاجتماعي

     تتعدد القضايا التي عالجتها هذه المسرحية وتتنوع، ولكن قضيتين أساسيتين تأتيان في مقدمة القضايا التي تم التركيز عليها، وهما:

أ – الاستغلال الاجتماعي

     إن إثارة موضوع مدن الصفيح في هذه المسرحية هو مؤشر مبكر على تحويل هذا الموضوع إلى قضية مركزية في العمل المسرحي.

     وقد واجه سكان حي الصفيح، كما مر بنا، ما كان يحاك لهم في الخفاء تحت واجهة مشروع سياحي يدر الخير العميم على الجميع بمن فيهم السكان الفقراء، وفي الوقت الذي كان فيه الهدف الحقيقي هو هدم أكواخهم وتشريدهم وبناء مشروع سياحي لفائدة غيرهم.

       إن اِستراتيجية الكتابة المسرحية بنيت منذ البداية بين ابن دنيال ودنيازاد إذ نجدهما يوجهان جميع أقوال وأفعال الشخصيات لتشخيص مظاهر الاستغلال الاجتماعي بكل ما تتطلبه من مواجهة بين مستضعفين ومستقوين، ومن حضور لمن هم في موقع المساعدة أو المعارضة للطرفين. كما عملا على توضيح كون الشخصيات التاريخية مجرد أقنعة لمعاناة الإنسان الحالي في العالم العربي:

    من الطبيعي أن يتحول القهر والاستغلال الاجتماعي إلى مادة أساسية لبناء موضوع المسرحية، لذلك بالنظر إلى أن الفترة التي نشرت فيها لأول مرة كانت من أكثر فترات التاريخ العربي تركيزا على القضايا الاجتماعية والسياسية في معظم البلدان العربية، وقد كان ذلك سببا في تسهيل دخول بعض النظريات الاجتماعية والسياسية التي تنادي بالمساواة بين الناس وتوزيع الثروات بطريقة عادلة أو تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.           

  ب – استغلال المرأة

      اعتبرنا استغلال المرأة قضية مستقلة لما حظيت من اهتمام خاص ومتميز في عالم النص المسرحي، علما أننا أشرنا إلى الدور الريادي في الفكر والتمرد، ونشر الوعي لدى شخصية نسائية أساسية وهي شخصية عريب.

      معظم النماذج النسائية الموجودة في هذه المسرحية خاضعة لقهرية مزدوجة:

       - سلطة السيد مقابل خضوع العبد. وهنا رجع المؤلف إلى نظام الرقيق في التاريخ العربي من أجل تقوية صور الاستغلال الجنسي للنساء على الخصوص.

      - سلطة المال الذي حول جسد المرأة وروحها معا إلى مادة للاستهلاك. 

    ولقد أشرنا سابقا إلى تمرد عريب ورفضها أن تجمع بين أن تكون سلعة تباع وتشترى، وأن تمنح عواطفها للأسياد. هكذا عبرت عن حلمها بالتحرر حين مثلت رفضها الانصياع لرغبات رئيس المجلس البلدي في شخص حبابة، كما أنها رفضت أن تبادل ابن الرومي مشاعره العاطفية وصك شرائها بين يديه. وقد اندمجت قضية المرأة في هذا العمل مع قضية التحرر الاجتماعي العام. وهذا ما يفسر عودة عريب إلى ابن الرومي من أجل دعوته إلى الخروج من عزلته ليعانق قضايا الناس في الأسواق متعللة بدعوته للبحث عن خلخالها الضائع.

       وهناك في النص قضايا أخرى لها ما يصلها بالقضيتين الأساسيتين المذكورتين، ومنهما:

ج – مساندة القاهر ضد المقهور من أجل الحصول على المال : ففي مرحلة من مراحل حضور ابن الرومي في النص المسرحي، بدا مساندا لسلطة المجلس البلدي من أجل الحصول على المال. وقد سلك طريق التكسب بشعره على عادة شعراء العصر العباسي، أو على ديدن من يبيع فنه وجهده الفكري طمعا في الحصول على المال.
د – قضية الحرية : باعتبارها شرطا أساسيا للوجود الفردي ومحورا لتبادل العواطف الإنسانية. وقد مثلت عريب هذا الجانب أفضل تمثيل حين قادت ابن الرومي بالحوار والمنطق  إلى تحريرها من العبودية، ثم قادته هو نفسه إلى تحرير نفسه. كما أن شخصيات حي الصفيح كانت تبحث دائما عن عالم جديد يكون فيه الإنسان طليقا حرا.

البعد النفسي

    الجدير بالذكر أن النص المسرحي قد ركز على ما يمكن أن يبتلى به كل ممالئ للقاهرين من قلق ووساوس واضطرابات تجعله عاجزا في كثير من الأحيان عن أن يعيش حياة إنسانية مفعمة بالمحبة والتآزر. وهذا في الواقع بعد نفسي حاضر بقوة في النص المسرحي وخاصة من خلال الشخصية المركزية، وهي شخصية ابن الرومي على الأقل في مرحلة هامة من حياتها المسرحية. ولعل هذا الحضور القوي للتوتر النفسي يعود بالدرجة الأولى إلى الحمولة النفسية التاريخية لما كان يعرف عن هذه الشخصية من اضطرابات ووساوس وتشاؤم وتطير. وقد استطاع عبد الكريم برشيد أن يستغل هذه المعطيات ويبلورها بخلق مناخ من التوتر حولها لما كان لها من علاقات مع شخصيات المسرحية الأخرى، وخاصة عريب وجيران ابن الرومي بكل ما فيهم من عيوب كانت دائما تستفز مشاعره وتجعله كارها للحي وأهله، منطويا على نقسه، قابعا وراء باب بيته.

     على أن المسرحية حاولت أن تضيف إلى البعد النفسي التشاؤمي بعدا عاطفيا آخر مر بالمرحلة الحسية وانتقل إلى مرحلة عاطفية إنسانية بين ابن الرومي وعريب، وبينهما من جهة وسكان حي الصفيح من جهة أخرى. يقول ابن الرومي معبرا عن مشاعره نحو عريب في عز لحظات التلاؤم العاطفي بينهما وخاصة بعد أن حررها من العبودية.

   أما عاطفة المحبة وصفاء الروح التي اجتاحت ابن الرومي في نهاية المسرحية نحو جيرانه فقط عبر عنها اللوحة 16.

   وعلى العموم فالجانب النفسي والعاطفي في المسرحية، وظف دائما لتدعيم العلاقات بين الشخصيات وتوترها بما يخدم البعد الاجتماعي والدرامي فيها.


الفضاء في  مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح

 يظل عبد الكريم برشيد  في احتفاله المسرحي وفيا لفضائه الأثير الممثل  في ساحة الحي: 

"يرفع الستائر عن ساحة تحيط بها مجموعة من دور القصدير وأخرى من القصب. ظلام شبه تام، تنبعث من "النوافذ" أضواء خافتة ترسلها شموع هزيلة ...". 

   إن الساحة تشكل البؤرة التي سيلتقي فيها ابن دنيال بجمهوره، فهي فضاء الفرجة التي تتيح إمكانية استعادة لحظات حميمية ولقاء مباشرا بين الممثلين والجمهور دون فواصل أو قطائع. وفي حوار الطفل وابن دنيال: 

يقول الطفل: ترى أين تمضي دائما هذه العربة؟.

ابن دنيال: إلى ساحة بغداد والشام.

مما يؤشر على الحضور المكثف والاستراتيجي للساحة، فابن دنيال حيث حل وارتحل تشكل الساحة فضاءه الأثير.

 وإذا كان المسرح في بداياته بسيطا، فإن الاحتفالية في نصوصها الإبداعية لا تشذ عن هذه القاعدة، إذ لا نكاد نجد من العناصر المؤثثة للفضاء المسرحي سوى عنصر الإضاءة بوصفها لغة درامية تقوم بوظيفة التبئير عبر الإشارة إلى الفضاءات الأخرى المشكلة للنص الدرامي.

 ورغم حقارة الحي ووضعه المزري، فإن أهله يجمعهم شغف للاجتماع حول خيال الظل الذي لا ينفصل عموما عن همومهم وقضاياهم الآنية وانشغالاتهم الراهنة.

ولم يكن فضاء الحي القصديري قاتما تماما وسلبيا كليا، بل تضمن دلالات أخرى تجعل الحياة فيه أمرا ممكنا والاستمرار في العيش فيه متاحا، من قبيل العلاقات الاجتماعية الوطيدة بين ساكنيه؛ مما يؤشر على التضامن والتعاون والتآزر، علاوة على لحظات وجدانية وعلاقات حميمية منحت ابن الرومي شحنة نفسية في مواجهة الفقر ويتعلق الأمر بعلاقة العشق بينه وبين عريب الجارية.


  دمج الأزمنة والطابع الرمزي 

    إن أحداث المسرحية، بكل بساطة، تجري في الماضي والحاضر على السواء، لأن ابن الرومي وعصر ابن الرومي هما مجرد خلفية تاريخية يراد منها تعرية الواقع الحالي بطريقة ترميزية  (الزمن، إذن في المسرحية ، هو كل الزمن العربي ، والمكان هو كل المكان العربي) على حد تعبير كاتب المسرحية نفسه. غير أن رمزية عبد الكريم برشيد في هذا العمل مصرح بمدلولها في الوقت ذاته، وهذا ما جعل اللعبة الفنية مكشوفة إلى حد كبير من البداية إلى النهاية. والذي خفف من أثر هذه التعرية على المصداقية الفنية للعمل أن السارد ابن دانيال وابنته دنيازاد أخبرانا منذ البداية أن اللعبة الفنية في المسرحية ستكون دائما موضوع تفكير ومناقشة، وهذا يعني أن المسرحية تتضمن خطابا واصفا في تضاعيفها (نقديا) يتأمل سيرورتها، ويناقش وسائل الأداء الفني فيها. وهذا الإجراء مهم، ونحن نناقش تقنية دمج الأزمنة والأمكنة، على مستوى الرؤية الشمولية للواقع العربي في هذا العمل المسرحي المتميز. وهي شمولية تزداد اتساعا لتحتوي العالم الغربي أيضا، عندما تعالج المسرحية قضية المرأة من خلال وضعية الجارية عريب.

  غالبا ما تميل المسرحيات الاحتفالية إلى كسر دائرة الانغلاق الزماني والمكاني ، "فالزمن الذي يدور فيه الحوار المسرحي هو زمن معنوي لا حدود له ولا معالم ، فهو أشبه ما يكون بالأبدية ..". 

لغة المسرحية

- استخدام تقنية المسرح داخل المسرح 

   أشرنا في البداية إلى أن من أهم مبادئ المسرح الاحتفالي تحويل المسرح إلى مجال  لتحريك وعي الوعي، أي جعل التشخيص المسرحي نفسه خاضعا للمساءلة والمناقشة والتعليق من داخل التشخيص  نفسه. وهذا ما يطلق عليه التمسرح أو المسرح داخل المسرح.

   ومسرحية ابن الرومي تكاد تكون مبنية من بدايتها إلى نهايتها على هذه التقنية، فابن دانيال وابنته يفتتحان العرض المسرحي بظهورهما على الخشبة، لكنهما بدورهما يحركان لوحات مسرحية بواسطة عربة خيال الظل التي تحتل، بعالمها، جانبا من مسرحهما، فيتواريان ثم يظهران عند نهاية كل لوحة أو بدايتها للقيام بتحريك جديد أو إغلاق. إن دورهما يماثل إلى حد كبير دور السارد في الرواية، لكنه سارد من نوع  خاص لأنه لا يكتفي بالتدخل بل يستعين بوهم إطلاق عالم التشخيص بواسطة آلة خيال الظل، والمسألة هنا ليست سوى لعبة إيهامية لتكسير الرتابة المعروفة في العروض المسرحية التقليدية التي تقدم عرضها مباشرة للجمهور، وهذا الإجراء شبيه بخاصية التغريب في مسرح بريخت أي تحويل المواقف اليومية لمعاناة الناس، بواسطة تدخل السارد، إلى واقع مدهش يستحق الاهتمام عبر إدراكها في حالة عزلة وغربة، والهدف من ذلك تمكين الجمهور من الوقوف على مبعدة من الوقائع المعروضة ليصبح قادرا على اتخاذ موقف نقدي تجاهها، أما الإجراءات المؤدية إلى  خلق حالة التغريب فهي:

   - إظهار تناقضات الشخصية 

   -  جعل الممثل يعرّف بدوره في نفس الوقت الذي يؤدي فيه هذا الدور 

   -  فتح إمكانية أداء أدوار متعددة في عرض واحد لممثل واحد

   - استخدام الإنشاد والأحلام والمونولوجات الداخلية 

   - إدخال السرد في نطاق الحوار، فكل شخصية يمكن أن تتحول إلى سارد.

ومعظم هذه الخصائص سنجدها في مسرحية ابن الرومي في مدن القصدير مما يدل على أن للكاتب صلة ما بالمسرح البريختي.

  - السخرية

  أساليب السخرية في الأعمال المسرحية وسيلة لإدراك المفارقات والمواقف المثيرة، وهي لذلك بالغة الأهمية في إثارة انتباه المتلقي إلى عمق العيوب الفردية والتناقضات الاجتماعية. والسخرية من أهم الوسائل الفنية لبلورة مواقف الشخصيات وما يميزها من تعارض بين الأقوال والأفعال.

 أبرز شخصية كانت موضع سخرية في هذه المسرحية شخصية المقدم الذي كان يستهلك خطابا معسولا؛ؤلكنه يخفي دائما وراءه أخبار السوء بالنسبة للبؤساء في مدن القصدير.

 ومن النماذج الجيدة لما يمكن تسميته بالسخرية الهادئة مقطع الحوار الذي يسخر فيه ابن الرومي من أشعب المغفل.

- الإضحاك

    يضفي الإضحاك الحيوية على العرض المسرحي، وهو مظهر من مظاهر الاحتفال والفرجة. ولا يكون دوره عادة موجها إلى التعاطف الإنساني، بل إلى تحقيق مواصلة الانتباه بالنسبة للمتلقين، وهو يقدم لذلك متعة عقلية أو تخييلية، إنه بمثابة مكافأة تقدم إلى الجمهور جزاء انتباهه إلى ما يعرض أمامه من مواقف وأحداث وآراء، فهو خاصية تعبيرية ومدلولية في وقت واحد، لهذا يعد من الأدوات الفنية في التعبير المسرحي كالسخرية تماما.

إن توظيف عنصري السخرية والإضحاك من خصائص المسرح الشعبي، وتقليد معروف في أنماط الكتابة المسرحية التي تقوم على الاحتفال، إذ يشكل الفرح على الخصوص أحد مظاهرها الأساسية.

- توظيف الأدب الشعبي والسرد الخطابي

  من أهم علامات الاحتفالية في المسرح تحويله إلى مجال حيوي يستفيد من العادات والتقاليد والتاريخ والأدب الشعبي والأسطوري وجميع أشكال الفرجة الاجتماعية، كما أن توظيف خيال الظل يدخل في هذا الإطار الفني ويصبح آلية حيوية لتكسير رتابة المسرح التقليدي.

  تستغل صور وأشكال الشخصيات الأسطورية على المستوى السينوغرافي كما هو واضح من الإرشادات المسرحية الخاصة بالديكور أو المؤثثة للركح.

على أن توظيف المعطيات الواقعية للحياة الشعبية وغيرها من العناصر الاحتفالية، إنما هو وسيلة فقط لتحريك الواقع والبحث فيما هو ممكن.

  وقد سمح استخدام شخصيتين ساردتين أيضا بالتقليل إلى حد ما من الهيمنة التامة للحوار في اللوحات المسرحية. لذا تم توظيف المونولوج الذاتي، إضافة إلى ما نسميه السرد الخطابي الذي يستلهم ما يشبه خطاب الحلقة بلغة غير دارجة، ولكن بكثير من خصائص الخطاب الشفوي الذي نسمعه في الحلقات الشعبية. 

- الديكور   

   يرى "بارت" أن المسرح  يبث عددا من الإرساليات المتزامنة، أي في وقت واحد. وكل إرسالية لها إيقاعها الخاص ومدلولاتها الإخبارية الخاصة. وفي مقدمتها الديكور والملابس والإنارة والممثلون وحركاتهم وإشاراتهم  وكلامهم. 

 وفي مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح" نتلقى كل المعلومات الخاصة بالديكور عن طريق اللغة في خانات الإرشادات المسرحية. وهي في الغالب مقاطع وصفية شبيهة إلى حد ما بمقاطع الوصف في الروايات. تبدأ اللوحة الثانية هكذا: "يرفع الستار عن ساحة تحيط بها مجموعة من دور الصفيح، وأخرى من قصب، ظلام شبه تام، تنبعث من النوافذ أضواء خافتة ترسلها شموع هزيلة... إلخ"..

هذا بالنسبة للنص، أما في العروض التي قدمت لهذا العمل فالديكور سيكون حاضرا بجميع عناصره دفعة واحدة ، لكنه يتغير من لوحة إلى أخرى.

   وعلى العموم فإن المسرحية حافلة بشتى أنواع التقنيات التعبيرية ووسائل الأداء الفنية ذكرنا معظمها، وبقي أن نشير إلى الإنارة والظلال والموسيقى لتكتمل معالم الصورة الفنية للعرض المسرحي المفترض، وهو عرض يمثل بجميع عناصره المتفاعلة مثالا دالا على الاتجاه  الاحتفالي الذي تبناه برشيد خلال حياته الفنية الطويلة. 

- الشعر والإنشاد

  لتدعيم الطابع الاحتفالي والفرجوي طعّم برشيد الحوار المسرحي باللغة الشعرية وبالإنشاد. ويرتبط ظهور الشعر في هذه المسرحية بالحوار الذاتي، ويجري على لسان شخصية شاعرة هي شخصية ابن الرومي، إلا أن عنصر الإدهاش في هذا الإجراء هو أن ابن الرومي لا يلقي شعرا تقليديا كما نتوقع، بل يعبر عن حالته المتأزمة بشعر حر.

أما الإنشاد والغناء، فغالبا ما يتصلان في المسرحية بتجسيد الأحزان الجماعية أو التحميس على ارتياد المواقف الإيجابية ذات البعد الاجتماعي. هكذا نجد أصحاب ابن الرومي من جيرانه في حي القصدير يحاولون بالغناء توجيه انتباهه إلى ما تمثله عريب من رموز وقيم عليا كان عليه أن ينتبه إليها..

    استخدام الشعر والغناء في هذه المسرحية يعكس غالبا مواقف أساسية لدى بعض الأبطال الطامحين إلى التحرر والانعتاق من ربقة الاستغلال والقهر. كما يعكس روح التضامن والألفة والنصيحة المتبادلة بينهم لأجل ترسيخ هذه القيم. لذا كان معظم الشعر والإنشاد في المسرحية جاريا على لسان الشخصيات التي تحمل هذه القيم، أما الشخصيات المناوئة لها فلا يرد على لسانها شيء من ذلك. 


 القراءة التركيبية

     لقد تبين لنا أثناء القراءة التحليلية أن هذا العمل المسرحي يمثل حلقة مهمة في تطور الكتابة المسرحية المغربية والعربية على السواء، وهو يلتقي إلى حد كبير مع بعض التجارب المسرحية الاحتفالية الأخرى كأعمال الطيب الصديقي على سبيل المثال لا الحصر.

    وقد لاحظنا أن جميع المبادئ الاحتفالية كانت مجسدة في هذا النص، سواء من حيث الموضوعات أو من حيث وسائل التعبير والعرض المسرحي.

    و أهم هذه المبادئ تحريك الواقع ومحاولة استشراف المستقبل، فموضوع المسرحية كما رأينا هو واقع التفاوت الحاصل بين فئة اجتماعية تسكن مدن القصدير وفئة أخرى تمعن في استغلالها. وقد عبر الكاتب عن ذلك بترسانة من الوسائل الفنية والتعبيرية المستمدة من التاريخ والتراث الثقافي العربي، واستطاع أن يعيد تشكيل قطاع اجتماعي نموذجي يمثل الإنسان الواقع تحت ظروف الاستغلال القاسية، كما عالج مشكلة المرأة ووسع نطاق دائرة الاستغلال التي تسحقها في القديم والحديث، في العالم العربي وخارج العالم العربي. وتوسل في معالجة القضايا المطروحة ذات الأبعاد النفسية والعاطفية بآليات السخرية والإضحاك والتمسرح واللغة الشعرية والغناء والإنشاد والسرد الخطابي، ووصف مشاهد الديكور وأشكال الحكي الشعبي والأسطوري، بالإضافة إلى حضور الخطاب الواصف في تضاعيف الحوار بين الشخصيات، وهو ما جعل المسرحية بمثابة مهرجان فني ودلالي ونقدي يستحق الاهتمام والتقدير.

       لقد نظر عبد الكريم برشيد إلى الاحتفالية من زاوية كونها حركة مسرحية تسير في ركاب النزعة الأنتربولوجية باعتبارها تحمل دعوة إلى الأصول، وقد فهمت الاحتفالية في كثير من ردود الفعل النقدية السلبية بطريقة تبسيطية أي باعتبارها دعوة للاحتفال بمفهومه الظاهر أي الغناء والرقص والفرح، وهذا ما جعلها عرضة لانتقادات عنيفة وخاصة من خصومها المسيسين. وقد انبرى عبد الكريم برشيد للرد على هذه الانتقادات وإعادة رسم معالم تصوره لمفهوم الاحتفالية مرات عديدة باعتبارها صورة حية عن الواقع الاجتماعي بكل مل فيه من فرح وحزن على السواء.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-