منهجية تحليل نص فلسفي : طبيعة العدالة الإنسانية


منهجية تحليل نص فلسفي : طبيعة العدالة الإنسانية

طبيعة العدالة الإنسانية


النص :

"يمكن أن نأخذ مفهوم العدالة الإنسانية على أنه يعني أن البشر جميعا متساوون في ميزاتهم وخصالهم الملموسة، وهذا فهم سخيف وغبي بلا شك، إذ إن بعض البشر أرقى أو أدنى من غيرهم بكثير من نواح محددة. كما يمكن أن نأخذ مفهوم العدالة على أنه يعني ضرورة أن تتاح لكل شخص فرصة متكافئة لأن يصير غير مساو لغيره، لكن هذا الفهم يقصر عن التقاط حدسنا القوي بأن المساواة البشرية تمضي إلى ماهو أعمق من ذلك...

ما الذي يعنيه إذن، أن يعامل فردان على نحو متساو؟ لا شك أن ذلك لا يمكن أن يعني معاملتهما بالمثل، لأن ذلك لا بد أن يفضي إلى الظلم إن كانت لدى هذين الفردين حاجات مختلفة ومقدرات مختلفة...أن تعامل شخصين على نحو متساو لا بد أن يعني ألا تعاملهما بالمثل، وإنما أن تلبي حاجاتهما المختلفة على نحو متساو. فليس المهم أن يكونا فردين متساويين، بل أن يكونا فردين على نحو متساو، وبهذا المعنى فإن مفهوما معقولا للمساواة لابد أن ينطوي على فكرة الاختلاف."

منهجية تحليل نص فلسفي : طبيعة العدالة الإنسانية


تحرير الموضوع:


مقدمة:


ينتمي موضوع النص نظريا إلى المجال الإشكالي لحقل السياسة، بوصفها ممارسة بشرية جماعية تعمل على تنظيم حياة الأفراد، وتجعلها خاضعة لشرعية القانون، بدل خضوعها لمنطق القوة والعنف.  ويلامس النص بشكل واضح ذلك الإشكال المرتبط بمفهومي الحق والعدالة، والذي يسائل طبيعة العدالة الإنسانية، وهل هي المساواة التامة بين كل أفراد المجتمع، أم إن العدالة تقتضي الإنصاف والتمييز الإيجابي. وتذهب أطروحة النص إلى التأكيد على أن العدالة تقتضي الإنصاف والتمييز الإيجابي. كما تؤكد أن العدالة بوصفها إنصافا، ترتبط بتلبية الحاجات المختلفة للأفراد بصورة متساوية.


تحليل:


كجواب عن الإشكالية السابقة، ترى أطروحة النص أن العدالة بوصفها إنصافا ترتبط بتلبية الحاجات المختلفة للأفراد بصورة متساوية. وهي أطروحة يبنيها النص لإعادة النظر في مفهوم العدالة حيث يتصورها تصورا مغايرا لما هو شائع ومتعارف عليه. فهي أولا ليست مساواة تامة بين الناس، واعتبارهم متساويين بشكل تام ومطلق من حيث الحقوق والواجبات، كما أنها ليست مجرد تكافؤ على مستوى الفرص، بحيث إن كل فرد له الحق أن يحقق كل ما يسعى إليه داخل شروط عامة ومشتركة بشكل لا تميز فيه، بحيث يستطيع الفرد إذا ما توفر على تكوين خاص أو مؤهلات خاصة أن يصل إلى ما لا يستطيع أن يصل إليه من هو أقل منه تكوينا أو مؤهلات. إن العدالة بهذا المعنى لا تعبر، حسب النص، إلا عن فهم سخيف و ساذج، إذ إنها لا تأخذ بمبدأ أساسي، وهو أن الأفراد ليسوا متساوين، وأن الطبيعة لم تهب الناس المؤهلات الجسدية والنفسية والعقلية نفسها، ولم يستفيدوا من ظروف التربية والتكوين والتعليم نفسها، لذلك فالعدالة الحقيقية هي أعمق وأهم من هذه التصورات الشائعة. إن العدالة الحقيقية هي العدالة التي تنطلق من مبدإ الاختلاف، أي من كون الناس يختلفون في نواح عدة، وبالتالي فإن معاملتهم على أساس المساواة المطلقة سيفضي حتما إلى الظلم لأنه في هذه الحالة سنحرم كل من يتوفر على خصائص عالية من استثمار طاقاته في الإبداع والابتكار والخلق والتميز فقط، لأن عليه أن يتساوى مع من هم أقل منه قدرات ومواهب. لذا فإن العدالة يجب أن تأخذ معنى معاملة الأفراد بحسب حاجاتهم ومقدراتهم، واعتبارا لاختلاف الحاجات والقدرات فلا يجب معاملتهم بالمثل، وإنما تلبية حاجاتهم المختلفة على نحو متساو. إن المهم إذن أن يكونوا أفرادا يعاملون على نحو متساو.


مناقشة:


إن القول بضرورة الابتعاد في تحديد العدالة عن المماثلة المطلقة لما سينتج عن ذلك من ظلم للأفراد، قول انتبه إليه أرسطو قديما عندما صرح بأن "المساواة واللامساواة التامتين، هما ظالمتان بين أفراد ليسوا متساوين عموما". فلا يمكن للمساواة أن تقيد من يتمتع بروح المبادرة والابتكار وتشجع على الكسل وقتل المنافسة. كما يمكن استغلال مبدإ الاختلاف بين الأفراد في المؤهلات والقدرات لتكريس اللامساواة وتعميق التراتبية بين الأفراد داخل المجتمع، الأمر الذي سيؤدي إلى ظلم فئات كثيرة لم تتح لها الظروف لتطوير قدراتها الخاصة، لذلك سيضع أرسطو تمييزه المشهور بين العدالة والإنصاف، مع اعتبار الإنصاف أهم من العدل. إن العدالة بمعناها الشائع، وهو تساوي الناس أمام القانون من حيث الواجبات والحقوق، عدالة تقوم على التساوي والمماثلة، والتي يمكن أن تلحق الضرر أحيانا ببعض فئات المجتمع. لكن بالمقابل لا يمكن أن نطبق اللامساواة التامة. إن العدالة تقتضي الإنصاف. أي الإنصاف الذي يؤمن بالحالات الخاصة ويحكم بروح القانون لا بحرفيته، إلا أنه إنصاف يسعى إلى خلق التمييز الإيجابي الذي غرضه حماية مصالح بعض الفئات الاجتماعية التي يمكن في بعض الحالات أن تتعرض إلى الظلم. إلا أن أطروحة أرسطو، ورغم انتمائها إلى الثقافة اليونانية القديمة، مع ذلك حافظت على قوتها النظرية وعمقها السياسي والأخلاقي، بحيث نجد كثيرا من المفكرين المعاصرين من حاول الرجوع إلى أطروحة أرسطو، مستفيدين من ذلك التمييز بين العدالة والإنصاف في أفق إيجاد ذلك الوسط الضروري بين مساواة مطلقة ولامساواة مطلقة تفضيان معا إلى الظلم.


تركيب:


يمكن أن نستنتج، انطلاقا من تحليلنا ومناقشتنا السابقين، أن تحقيق المساواة بوصفها مطلبا سياسيا وقانونيا وفضيلة أخلاقية لتطبيق العدالة، ليس بالأمر الهين ولا البديهي، مادامت الطبيعة ذاتها لم تجعل الناس سواسية على كافة القدرات الجسدية والنفسية والعقلية... لكن هل يجب اعتبار ذلك مبررا لتكريس التفاوت وإلحاق الظلم بمن هو أقل قدرات من الآخرين، أو من الذين لم يأخذوا حظهم من التربية والتعليم؟ إن الرهان الأكبر، وربما التحدي الأساسي، بالنسبة لهذا الإشكال هو كيفية بناء توازن بين مساواة عادلة ومنصفة تحترم الاختلافات الطبيعية بين الأفراد، وبين تمييز إيجابي يسعى إلى حماية وتفضيل مشجع للفئات التي، في حالة مساواة مطلقة وتامة، يمكن أن تتعرض للظلم والعنف والتهميش، مثل الأطفال والنساء والأقليات وذوي الحاجات...



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-