منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال قيمة المعرفة التاريخية

 

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال قيمة المعرفة التاريخية

إشكال قيمة المعرفة التاريخية

النص:


"يمثل التاريخ بالنسبة للنوع الإنساني ما يمثله العقل بالنسبة للفرد، فبفضل العقل لا يكون الإنسان مثل الحيوان سجينا في الحدود الضيقة للحاضر المرئي. فهو يعرف أيضا الماضي الممتد البعيد بما هو مصدر الحاضر المرتبط به. إن هذه المعرفة وحدها هي التي توفر فهما أكثر وضوحا بالحاضر، بل تتيح صياغة تخمينات للمستقبل. وفي المقابل فإن المعرفة التي يملكها الحيوان والمفتقدة للقدرة على التفكير، والمحدودة بحدود الحدس الحسي والتي تظل بالتالي سجينة الحاضر، تجعل من هذا الحيوان كائنا تائها بين البشر، جاهلا وبليدا ومستعبداً، حتى ولو تم تدجينه. وعليه فإن شعبا لا يعرف تاريخه الخاص يظل حبيسا في حاضر الجيل الحالي: لا يفهم لا طبيعته الخاصة ولا وجوده الخاص؛ إذ يستحيل عليه إرجاعهما إلى ماض يفسرهما، بل أكثر من ذلك، يغدو عاجزا عن استباق المستقبل. وحده التاريخ يمنح شعبا وعيا تاما بذاته. ويمكن النظر إذن إلى التاريخ بوصفه وعيا معقلنا للنوع البشري؛ فالتاريخ يمثل بالنسبة للإنسانية ما يمثله الوعي القائم على العقل بالنسبة للفرد، إذ إن غيابه يحكم على الحيوان بالبقاء حبيسا في المجال الضيق للحاضر الحدسي."

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال قيمة المعرفة التاريخية



تحرير الموضوع:


مقدمة:


يعالج النص المقترح إشكال قيمة المعرفة التاريخية بالنسبة للنوع البشري، ويستحضر في هذا السياق أهمية الوعي التاريخي بالنسبة للإنسان الذي يبقى مشروطا في وجوده الجماعي والفردي بتاريخيته. فإلى أي حد يمكن الاعتراف بوجود قيمة حقيقية لهذه المعرفة بالنسبة للإنسان؟


تحليل:


يقر النص في بدايته بتماثل بين النوع البشري والتاريخي من جهة أولى، ومن جهة ثانية بين الفرد والعقل. ومن ثمة يبرز، منذ البداية الأهمية المؤسسة التي يمنحها صاحب النص للتاريخ الذي يجعل مكانته مساوية لمكانة العقل. والواقع أن هذه المماثلة تحكم في تفاصيلها الفقرة الأولى للنص.

عادة ما عرف الإنسان بأنه كائن عاقل، حيث التعقل هو جوهر إنسانيته، وربما كان هو السر وراء كونه يتكلم ويتواصل مع أغياره. غير أن البعد الحقيقي للمماثلة يتجلى بوضوح في كون صاحب النص يستحضر المقارنة بالحيوان. وتستحق هذه المقارنة أن نتوقف عندها بالتحليل، لأنها تبرز البعد الذي يركز عليه صاحب النص ألا وهو بعد الوعي بالزمن عند الإنسان، بالأصح الوعي التاريخي في علاقته بالمعرفة. إن الوعي التاريخي من حيث هو الوعي بالزمن، يؤسس المعرفة الإنسانية في بعدها الذي لا يفصل الماضي عن الحاضر ولا عن المستقبل. وأهم ما يربحه الإنسان من هذه العلاقة هو إعادة بناء العلاقة بالواقع، فلا يصير هذا الواقع معطى جامدا وأحاديا بدون معنى ولا دلالة، بل يأخذ معناه من صيرورته التي تجعل اللاحق في علاقة عقلية مع السابق. مما يفتح أمام الإنسان إمكانيات استلهام التجربة واستشراف المستقبل. ويعتبر هذا المعطى مكسبا إنسانيا أساسيا يميزه على نحو جذري عن الحيوان الذي يبقى سجين الآنية والتكرار بدون معنى ولا دلالة. وهو الأمر الذي يجعله عاجزا عن التعالي عن وضعيته. عكس الإنسان الذي ينعكس على ذاته وعيا استرجاعيا. فتغتني تجربته اغتناء كاملا يحررها من إكراهات الواقع وأثقاله. وهو الأمر الذي يساعده على تملك الماضي والاحتفاظ به، مع استشراف المستقبل.

يظهر، إذن، من خلال هذا المستوى من التحليل أن التاريخ، أو بالأصح المعرفة التاريخية هي المفتاح الذي يفسر سر وعي الإنسان بالزمن. بل إن هذه المعرفة هي التي تجعل الجماعات تعي بتاريخها أي بذاتها وقدراتها وممكناتها، بانتصاراتها وانهزاماتها. إنها ما يعقلن تجربة الوجود الجماعي ويحدد معناه وعقلانيته. بهذا المعنى يكون التاريخ هو ملجأ الإنسان لاستلهام معايير توجهاته. لا إنسان بدون عقل، ولا مجتمع بدون تاريخ. هذه هي الأطروحة التي يمكن القول إن النص يدافع عنها عبر آليات حجاجية من قبيل المماثلة، والمقارنة. فإلى أي حد تصمد هذه الأطروحة؟


مناقشة:


يظهر أن أطروحة النص قوية بما فيه الكفاية لتواجه مختلف الاعتراضات. فالمعرفة التاريخية تبقى أساسية وحاسمة، رغم الأطروحات التي تقول بنسبيتها ومحدوديتها؛ ورغم ان تفرد الحدث التاريخي وعدم قابليته للتكرار أمر مؤكد على أكثر من مستوى. نعم، قد نقبل أن التاريخ وعدم قابليته للتكرار أمر مؤكد على أكثر من مستوى. نعم، قد نقبل أن التاريخ لا يقدم دروسا وعبرا تفيد الحاضر؛ لكنه يبقى مع ذلك المنارة التي تنير الطريق للمجتمعات بنور التجربة التاريخية التي توجه الاستشراف، على الأقل، في الاتجاهات التي يكون النجاح فيها أكثر احتمالا بحكم تلك المعقولية التي تحدد المعنى والاتجاه. لكن نتفق تمام الاتفاق على أن الإعلاء المبالغ فيه للماضي وللمعرفة بالتاريخ، لدوافع دينية أو إيديولوجية، قد يكون سببا كافيا للفشل التاريخي للمجتمعات، حيث تتحول العلاقة بالماضي إلى عبادة شبه وثنية للقدامى. ومع ذلك يبقى الانتصار الأعظم للإنسان هو وعيه التاريخي، أي استحضاره لتاريخيته المبدعة والفاعلة. وهذه لا يمكن أن تكون بدون عقلانية وبدون معنى ودلالة، إنه ما يربحه الإنسان وإن فاجأته الصدف التاريخية التي تلعب مع العقلانية لعبة المفاجأة السارة وغير السارة في كثير من الأحيان.


تركيب:


نخلص إذن، من خلال التحليل والمناقشة، إلى أن البعد التاريخي في الوعي الجماعي للشعوب بعد مؤسس ومحدد لوجهة المجتمعات، كما أنه يُعتبر شرطا من شروط التحرر من الحاضر المباشر واستشراف المستقبل.
تعليقات