منهجية تحليل نص فلسفي : موضوعية العلوم الإنسانية

 

منهجية تحليل نص فلسفي : موضوعية العلوم الإنسانية

 موضوعية العلوم الإنسانية

النص :

 "تعتبر العلوم التي موضوعها الإنسان على الأرجح، من بين أقدم العلوم التي رسمت حضاراتنا ملامحها الأولى، ومع ذلك فإن وضعها الحالي، إذا ما قورن بوضع العلوم الطبيعية، مخيب جدا للآمال. وذلك أن علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما، هي بالتأكيد، من بين كل العلوم التي تقدم المعارف الفضفاضة والأقل يقينية والأكثر إثارة للجدل.

من الواضح إذن، أن الفكر البشري واجه في هذا الحقل المعرفي أشد الصعوبات في بناء فكر عقلاني حول الظواهر الإنسانية. وحتى اليوم لا نستطيع القول بأن هذه العلوم قد تجاوزت مرحلة التردد في البحث والصراع من أجل الوجود. فهل نستطيع القول إننا نشهد مع ذلك ولادة تفسير عقلاني للظواهر النفسية والاجتماعية؟

ينبغي الإقرار، أن أحد الأسباب الرئيسية لتأخر العلوم الإنسانية إنما هو الطابع الخاص لموضوعها. فالإنسان يرى نفسه فردا حرا وذاتا أخلاقية من شأن تطبيق أساليب المعرفة الموضوعية عليه أن يحط من قيمته. لقد تطلب الأمر مجهودا جبارا من أجل بناء مشروع لدراسة الإنسان من حيث هو جزء من الطبيعة خاضع لقوانينها... وبعد محاولات عدة قام الباحثون ببناء علم للإنسان باستخدام نموذج علوم الطبيعة."

منهجية تحليل نص فلسفي : موضوعية العلوم الإنسانية



تحرير الموضوع : 


مقدمة:


يعالج النص الذي بين أيدينا إشكالا معرفيا خاصا بالعلوم الإنسانية، وهو بذلك يتأطر داخل مجال المعرفة عموما، ومجال الإنسانيات خصوصا. ويطرح النص في هذا السياق تحديات، أو بالأصح العوائق التي تقف حائلا أمام هذه العلوم لكي تصل إلى نفس درجة دقة وموضوعية العلوم الطبيعية. ذلك أن الإشكال الذي يعالجه هو ذاك المتعلق بعلمية العلوم الإنسانية، فهل الصعوبات المرتبطة بموضوعية الظاهرة الإنسانية، والتي يذكرها النص، هي صعوبات فعلية؟ أم إن الأمر يخص فهما معينا لعلمية هذه العلوم يجعل نموذج العلوم الطبيعية هو النموذج الوحيد الذي على أساسه تقاس الأمور؟


تحليل:


يدافع النص عن أطروحة مركزية مفادها أن أهم الصعوبات لبناء عقلانية علمية في العلوم الإنسانية تكمن في الطابع الخاص للإنسان بوصفه ذاتا أخلاقية تتمتع بالحرية. والواقع أن قراءة النص بتمعن تجعلنا نفهم أطروحته عبر أربعة مداخل هي: المقارنة، والاعتراف، والإقرار، وأخيرا التحدي.

يقارن النص العلوم الإنسانية بالعلوم الحقة، فيجد أنه بقدر ما كانت نجاحات العلوم الطبيعية مدعاة للفخر والاعتزاز بقدرات الإنسان، بقدر ما كانت العلوم الإنسانية مخيبة للآمال، رغم أنها من العلوم التي اهتمت بها الحضارة الغربية مبكرا. ولكن الاهتمام المبكر بها لم يكن كافيا لتحقق ما حققته العلوم الطبيعية، إذ يبقى علم الاجتماع ومعه علم النفس نموذجين مثيرين للجدل ومثالين لانعدام الدقة.

يعترف النص بأن خيبة الآمال هاته ترجع إلى طموح بناء فكر عقلاني حول الظواهر الإنسانية التي تتميز بخصوصية تجعلها مختلفة عن الظواهر الطبيعية. لهذا السبب تتميز وضعية حقل الإنسانيات بالتردد في البحث الراجع إلى تجريب المناهج الأنجع في مقاربة الظواهر الإنسانية.

يقر صاحب النص بأن الموضوع، أي الإنسان حين يرى نفسه ذاتا، وبالتالي فهو لا يقبل أن يكون موضوعا، كما يرى نفسه حرا، وبالتالي لا يتعرف نفسه مقيدا بضرورة خارجة عنه، كما أنه كائن له التزامات أخلاقية. كل هذه المواصفات تجعل منه ذلك الكائن الذي لا يمكن أن يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع الظواهر الطبيعية، فبالأحرى اعتباره شيئا يدرس ويقاس.

إن التحدي هو بذل جهد جبار للنجاح في دراسة الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة، كما حدث بالنسبة للعلوم الطبيعية الخاصة به، وبباقي العلوم ذات الصلة. غير أن نجاح هذه العلوم في مرحلة أولى، أدى إلى التفاؤل في مرحلة لاحقة، ودفع إلى استلهام نموذج العلوم الطبيعية في بناء هذا التفكير أو التحليل العقلاني للظواهر الاجتماعية. تؤكد  أطروحة النص على أن العلماء تمكنوا في النهاية من بناء علم الإنسان من خلال استلهام نموذج العلوم الطبيعية.


المناقشة:

تعتبر أطروحة النص من بين الأطروحات المتداولة بخصوص إشكالية علمية علوم الإنسان. وهي أطروحة تجد في تاريخ علوم الإنسان ما يدعمها ويؤكدها، غير أن ذلك لا يعني أنها لا تقبل المناقشة. صحيح، أن نجاح المنهج التجريبي في دراسة الظاهرة الطبيعية كان باهرا في إنجازاته التي جعلت الإنسان لا يقف عند حدود فهم الظواهر الطبيعية، بل يتعدى تلك الحدود إلى محاولة السيطرة على الطبيعة والتحكم فيها ليصبح سيدها. كما كانت هذه النجاحات وراء بناء  معرفة جديدة يحملها خطاب علمي جديد يجسد نموذجا للعلمية المتصفة بالموضوعية التي ترى الظاهرة كما هي وفي حد ذاتها، وتفسرها التفسير الصحيح البعيد عن الأهواء والاختيارات الإيديولوجية، بل أكثر من ذلك، أصبحت قادرة على تقديم تنبؤات بناء على قياسات وحسابات منتظمة، مما وسع من هامش تدخل الإنسان ومناورته، ومما غذى النزعة اليقينية للعلم. كل هذه المميزات جعلت الإنسان يقتفي نجاحات العلم التجريبي ويحاول استلهام هذا النموذج. ولكن خصوصية الظاهرة الإنسانية التي تند عن المنهج التجريبي نسبت من قيمة هذا الاستلهام لاتسامها بأبعاد الوعي والحرية والرمزية، مما يجعلها تستحضر الذاتية مع الموضوعية، وحرية الاختيار مقابل تكرارات الضرورة، والمفاجأة مقابل التنبؤ، لهذا كان من الطبيعي جدا الإشارة إلى قصور المنهج التجريبي وحدوده في مجال الإنسانيات، علما أن حدوده بدأت تظهر داخل مجال  الفيزياء ذاته، خصوصا في الفيزياء الفلكية والنووية. لقد كان من أهم مكتسبات تقدم التفكير المنهجي في دراسة الإنسان وبناء العلوم الإنسانية التمكن من بناء نموذج خاص لموضعة الظاهرة الإنسانية يعتمد الفهم والمشاركة العاطفية، أي إدماج البعد الذاتي ضمن المعطى الموضوعي، لكن بعد بناء العلاقة به منهجيا، بحيث يتم تحديده وضبط العلاقة معه.. وهكذا، يمكن أن ندرس الإنسان باعتماد التكميم والقياس، وبالتالي الحساب والإحصاء، ولكن أيضا التأويل في التعامل مع الدلالات والمعاني التي يعطيها الناس لأفعالهم وتدخلاتهم. فالظواهر الإنسانية لا تقاس فقط، بل تؤول؛ ولا تفسر فقط، بل تفهم أيضا. لم يعد هناك ذلك التناقض بين الظاهرة الإنسانية بصفتها ظاهرة موضوعية وبصفتها ظاهرة ذاتية، فهي هما معا.


تركيب:


تبين لنا من خلال تحليل أطروحة النص ومناقشتها، أهمية النقاش الإبيستمولوجي حول مفهوم العلمية في العلوم الإنسانية وتعدد المواقف بصددها، ولكن المناهج أصبحت تستوعب ذلك النقاش أكثر فأكثر، بفضل تطور التفكير الفلسفي والمنهجي في العلوم الإنسانية؛ ولكن أيضا بفضل تطور تقنيات ومناهج البحث، ومعه تطور البحث في الأخلاقيات التي تجعل العالم يتساءل عن معنى ودلالة المعرفة التي ينتجها عن الظاهر الإنسانية. فإذا كان من المؤكد ارتباط ميلاد علوم الإنسان بالرغبة في التحكم في المجتمع، فإن ظروف النشأة ليست هي ظروف التطور التي جعلت سؤال المعنى والتحرر يحتل الواجهة من موقع أن المعرفة بالإنسان هي معرفة خاصة بكائن لا يمكن أن تمس كرامته ولا حريته حتى في الحالة التي يكون فيها موضوعا للبحث، وبالتالي لا يمكن ضبط إنسانيته التي جوهرها  التحرر، رغم كل ما قيل عن الحتميات المادية وغير المادية.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-