منهجية المسرحية : الكنز لتوفيق الحكيم

 
منهجية المسرحية : الكنز لتوفيق الحكيم

 منهجية المسرحية : الكنز لتوفيق الحكيم

درس النصوص :                       

      المجزوءة الثالثة: أشكال نثرية حديثة

                                                المسرحية       

    نص مسرحي: الكنز لتوفيق الحكيم 

                                                                                                                                              

إشكالية النص وفرضيات القراءة:

المسرح نص وعرض، يسعى إلى تبليغ رسالة إلى المتلقي، تعرض وجهة نظر، أو تتأمل الواقع. ومنذ أربعينيات القرن العشرين بدأ تأليف نصوص مسرحية ذات بناء درامي متقن قابلة للقراءة والعرض معا اهتداء بالنموذج الغربي ومزاوجة بين التأليف الدرامي والمضامين الواقعية والتراثية المعبرة عن تطور المجتمع العربي لربط العربي بالعالمي. ومن مسرحيي هذه الفترة جورج أبيض ومراد السباعي ويوسف وهبي ونجيب حداد وأمين الريحاني. وتوفيق الحكيم أبرز رواد هذه المرحلة، جمع بين المسرح الذهني والاجتماعي والسياسي واللامعقول. ولد سنة 1898 في الإسكندرية، سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته القانونية، فشغف هناك بالفن والأدب، تقلب في عدة مناصب، واستقال منها ليتفرغ للكتابة الأدبية والصحافية حتى وفاته سنة 1987. ترك مسرحيات منها: سليمان الحكيم ـ أهل الكهف ـ الملك أوديب ـ ألف ليلة وليلتان ...، إضافة إلى روايات وقصص. والنص من مسرحيته (الكنز). فما موضوعه؟ وما فنيات لتشخيصه؟ وما رهانه؟   

    العنوان خبر لمبتدأ محذوف، والتعريف للتعيين، وكأن الكاتب يقول (هذا هو الكنز الحقيقي). ويوحي الكنز بمعنيين: أحدهما مادي يتعلق بالمجوهرات والأحجار الكريمة، والثاني معنوي يرتبط بالقيم الروحية والجمالية في بعض النفوس الطيبة الجميلة. وملفوظ الأم في نهاية المشهد يعكس الدلالة المعنوية لمفهوم الكنز. وهذه مشيرات دالة على أن موضوع النص هو الصراع بين القيم الروحية الجمالية والقيم المادية في العلاقة بين الناس. فما هي خصوصيات هذه المسرحية على مستوى الموضوع والبناء والأسلوب والمقصدية؟ 


استخلاص المعنى: 

يطرح النص قضية اجتماعية عن بناء العلاقات بين الناس على مصالح مادية أو قيم نبيلة راقية. فإذا كان الكنز بالنسبة للأب والأم والخطيب ينحصر في المال، فإنه بالنسبة لـ"مراد" و"درية" هو الإيمان بقيمة الفرد الإنسانية والروحية. وقد عرض الكاتب هذه القضية من خلال مشهد يقوم على أربعة مفاصل هي: 

1 ـ حوار الأب والأم والخطيب حول ثروة هذا الأخير، ورغبته في خطبة "درية".

2 ـ ممانعة درية وذهاب الأم في طلبها، واختلاق عذر لتبرير عدم رغبتها في الخطيب الثري. 

3 ـ دخول مراد إلى البيت بذريعة إخراج كنز لا ينفتح إلا على عيني درية، وخروج الخطيب قلقا.

4 ـ حوار مراد ودرية حول حقيقة مجيئه وإخبارها بمشاعره نحوها، والكشف عن المعنى الحقيقي للكنز.


تحليل النص

 ـ جرد القوى الفاعلة:

ـ الأب : متوسط الحال طماع، يرغب في المال ولو بتزويج ابنته عكس رغبتها، رجل ساذج، أمي، جاهل ... 

ـ الأم : تشارك الأب في التهافت على المال، ولكنها ستلعب دورا في إقناع الأب بالإذعان لرغبة ابنتها في مراد.

ـ درية : لها روح سامية، تبحث عن شريك حقيقي بنفس الروح، رفضت الخطيب الثري وتعلقت بمُراد المؤمن بما تؤمن به، هي الموضوع المرغوب فيه، فهي معادل رمزي للكنز.

ـ  الخادم : لعب دور الوسيط بالإخبار بمجيء مراد. 

ـ الخطيب : رجل ثري لا يؤمن إلا بالقيم المادية في الحياة، رمز الغرور والأنانية.

ـ مراد: مثل دور الساحر للظفر بدرية التي رآها مجسدة للمعاني الإنسانية السامية، فقرر الارتباط بها ولو بالحيلة التي أعطت أُكلها، رمز للمثقف النبيل الذي يقدر القيم الروحية. نجح في إقناع أفراد الأسرة بوجهة نظره.


البنية العاملية :

ـ جسدت درية دور العامل الموضوع الذي تجاذبته باقي العوامل الأخرى، ويمكن بيان علاقتها بباقي العوامل كالتالي :

العاملان الأب والأم: البنت وسيلة لتحقيق موضوع الاغتناء والارتقاء الاجتماعي.

العامل الخطيب: درية بالنسبة له موضوع لإشباع رغبته في امتلاك كائن جميل لطيف.

العامل مراد: درية بالنسبة له موضوع لتحقيق إنسانيته في أبعادها الروحية.

ـ تميزت البنية العاملية في هذا النص بالتنامي والتطور، ويمكن توضيح ذلك من خلال المراحل التالية :

* بنية تباين الرغبات : (التعارض) وتتجلى في بداية المشهد، حيث تتعارض رغبة درية مع رغبة الخطيب.

* بنية الصراع : (العقدة)، حين بدأ الخلاف بين الأب والخطيب، والساحر من جهة ثانية حول استخراج الكنز.

* تفسخ البنية : (الحل) محاورة مراد لدرية وكشفه لها عن حقيقة مجيئه وتغيير معنى الكنز في فهم الأب والأم.

 

القيم والأنساق الفكرية:

القوى الفاعلة وأبعادها الرمزية وموقفها من الحياة :

- الأب الجشع، رجل مادي .. مادي يؤمن بالقيم المادية في الحياة مادية

- الخطيب انتهازي الحياة لهو ومتعة مادية

- درية إنسانية تؤمن بسيادة القيم الروحية  روحية


ـ إن تباين الرغبات وتصاعد الصراع يعود إلى تباين القيم والأنساق الفكرية التي تمثلها القوى الفاعلة. وفي نهاية المطاف تنتصر القيم الروحية والأخلاقية على القيم المادية. وهذا الصراع يمثل، نسقا اجتماعيا يضم هذه المتناقضات. وهذا الانتصار يمثل قناعة الكاتب ورسالته، وسبب اتخاذ المؤلف لهذا الموقف ما يتميز به المجتمع من انحلال خلقي وإيثار للقيم المادية على حساب القيم الروحية.  والحيلة عمل مشروع لبلوغ هدف إنساني يزيل عائقا خلقيا قد يؤدي إلى تفسخ العلاقات الإنسانية المنبنية على قيم نبيلة سامية. 


 ـ الصراع الدرامي :

ـ من مظاهر الصراع بين مختلف القوى الفاعلة الصراع النفسي (كتمان المشاعر الطيبة بين مراد ودرية، والتي من أجلها تم نسج الحيلة للظفر بالموضوع ) والاجتماعي (التحايل للحصول على الثروة والاغتناء) والفكري (منظومة القيم المتباينة بين أفراد المجتمع الواحد) ـ والنتيجة هي انتصار القيم الإنسانية السامية كسبيل وحيد لخلق التوازن في العلاقات الاجتماعية. 

 ـ الحــــــــوار: 

  ينقل الكاتب أقوال الشخصيات بموضوعية (أو على الأقل يوهمنا بذلك)، فقد أفسح المجال لصوت الشخصية مباشرة لتعبر عن دواخلها ومواقفها ووضعياتها عبر أحداث ملفوظة، إننا أمام خطاب معروض، يظهر الخيالي فيه  في صورة الواقعي.  

والكاتب ينقل كلام الشخصيات كما هو دون تلوينات دلالية أو شحنات انفعالية، ويتبع سبلا استدلالية متنوعة (تقديم الحجج والبراهين والأمثلة والفرضيات وأساليب الامتناع وصيغ التوكيد وشروط الصدق … )، ليصل إلى نتيجة مفادها تطابق وجهتي نظر درية ومراد. ونظرا لخاصية الصراع المميزة للحوار جاءت سمات الشخصيتين وملفوظاتها متباينة ؛ واتسم حوار القوى الفاعلة بسمات متنوعة، نبينها كالتالي :

* الحوار الجدي : "ماذا جرى لها ؟ ذهبت تُحضر منديلها ولم تعد ؟".

* الحوار الساخر : ـ الخطيب : "إذا كانت حضرتك تستطيع أن ترى المال المخبوء في الحيطان؛ فهل تستطيع أن ترى المال المخبوء في جيبي؟".

     ـ مراد : "عيني لا ترى نقودا ولكنها ترى كنوزا ."

     ـ الخطيب : "ابدأ بفحصي يا حضرة الأخصائي .. من يدري ... ربما بقدرة قادر ينفتح علي الكنز؟".

* الحوار الهزلي : ـ الخطيب : "من ذا يرفض الفُرجة على "شمهروش" بالمجان ؟". 

* الحوار المتسلط : ـ الأب : "حضرته يذهب إلى داهية لا تُرجعه ..".

* الحوار الماكر المتحايل: "مشاغل البيت...مسكينة... إنها نشيطة أكثر من اللازم... لا تريد أن تترك للخدم أبسط الأمور..".

- وردت بعض العبارات العامية في بعض الحوارات، مثل "أبا العز بكْ" ، "زفتْ"..

 

 ـ البرهنة والحجاج :

- وإذا كان النص المسرحي يعتمد على الحوار لتبليغ رسالته وتجسيد جماليته، فإن  سمة البرهنة والحجاج بارزة في النص، لقصدها إثارة الانفعال المشترك مع المتلقي، وسعيها إلى تحقيق نوع من التواصل بين الكاتب والمخرج والممثل والقارئ والمتفرج؛ وقد دافعت كل قوة فاعلة عن موقفها بالحجة والبرهان :

ـ  حجة  الخطيب  على صحة وجهـــة نـظـره: "وهذا طبعا ليس بكثير على صاحب ثروة تُقدر الآن، كما تعلمون، بستين ألف جُنيه ؟".

ـ  حجة   مراد على صحة وجهـة نظره: "هذه الروح المضيئة ...".

ـ  حجة درية على صحة وجهة نظرها: "أبي يجب أولا أن نتفق على معنى الكنز، ماذا تقصد بالكنز؟".

ويبدو أن حجج مراد ودرية هي الأكثر إقناعا بموقفهما؛ لأنها أنهت القصة بتغيير موقف الأب والأم معا. وإذا كان حجم الحوارات متفاوتا طولا وقصرا في النص، فإن ذلك يُعزى إلى تباين وضعية كل شخصية وموقفها من الآخر. أما أسلوب الحوار فتلعب فيه الجمل الاستجوابية دورا حاسما في تبئير مختلف القضايا المستهدفة، وتتميز لغة الحجاج بأفعال كلامية متنوعة لتحقيق هدف معين: الاستفهام للاستئذان والتقزيم: ـ درية : "... أتسمح لي أن أناديك باسمك المجرد ؟" /  النهي للردع : ـ درية : "لا تجعل للمال كل هذه القيمة" / الخبر للسخرية : ـ درية : "لن أعتقد ذلك ... الدجال رجل صاحب براعة ولكنه ليس صاحب إيمان ..".

  والهدف من توظيف أفعال الكلام هو تنويع المقامات لتصعيد الفعل الدرامي، فمعظم الجمل استفهامية، ذات صيغة تداولية انفعالية (الريبة، والسخرية، والتساؤل، والتعجب) واردة في الخطاب المنقول للإيهام بحقيقته المفترضة، وبضوابط التبادل اللفظي الذي يجري في الكلام. وقد يكون من بين دلالاته أنه يعطي لوجود المتكلم والشخصية في النص كينونة تخييلية توحي بالامتلاء والاستمرار.


 ـ الأسلوب / التركيب : 

      يوحي توزيع السطور من خلال العارضة بأن الجمل في النص مستقلة بذاتها؛ ولكن فحصنا لتركيب هذه الجمل الحوارية، يظهر وجود ضمائر وأدوات وألفاظ مكررة وروابط تصلها مع ما يحيط بها، مما يسم النص بخاصية الاتساق والانسجام.

 ـ تفاعل الزمن والمكان :

دلالة الأمكنة لا تتحقق إلا بعلاقتها بعنصر الزمن، وقد جرت الأحداث في لحظة زمنية محددة هي زمن الخطبة، وتطورت الأحداث تصاعديا حتى النهاية. ويبدو أن التفاعل بين الزمان والمكان في هذه المسرحية قد ولد صورة متناقضة للقوى الفاعلة، فلكل واحدة منها مفهومها الخاص للكنز. والبيت فضاء يعكس صراع القيم والمصالح بين الناس؛ فهو مجال مغلق يُفترض أنه يضيق بتباين المواقف والمصالح وصراعها، لذلك صار بؤرة لتذويب الخلاف بين وجهات النظر حول مفهوم الكنز. وقد تحقق ذلك بعد خروج الخطيب من البيت. ويحضر في النص زمنان: واقعي ونفسي، الأول صيغ نحويا بصيغة المضارع الدال على تحقق الفعل في الزمن الحاضر للإيهام بواقعية ما يحدث، والثاني يعمق وعي القارئ بالأحوال الشعورية للشخوص، وأثر ذلك في القوى الفاعلة ودورها في تطور الأحداث نحو نهايتها، وتحقيق مغزاها ..


 ـ الإرشادات المسرحية : 

يعتمد المسرح أنساقا لغوية موازية Paralinguistique وهذه الإرشادات سرد قصير يؤثث الكاتب به فضاء المسرحية، وله أهمية كبيرة وأثر بالغ على متلقي النص المسرحي يتجلى في ترجمة الانفعالات والروابط الوجدانية بين الممثل والجمهور، وإغناء الإرسالية وضمان استمرار التواصل وموضعة الحدث في ظرفية معينة، وتقديم معلومات عن الشخوص والفضاء والزمان، ووصف وضعياتها وحركاتها ونبرات الصوت والكلام ..  ومن هذه الإرشادات:

ـ ما يدل منها على المخرج :  "يشير إلى الفنجان الرابع" ، "تنهض وتخرج من القاعة".

ـ ما يدل منها على الممثل :  "الحوار بين الشخصيات".

ـ ما يدل منها على الديكور : "البيت"، "رجل بالباب".

ـ ما يدل منها على المتفرج : "ينهض على قدميه" ، "باحترام"، ومثل هذه العبارات تتعلق بالتحديد الدرامي للفعل.

ـ ما يدل منها على القارئ : تقديم النص بمشهد يمثل صاحب البيت، فضلا عن شكل الكتابة، وتوزيع السواد على البياض.

و تتضمن إرشادات وتوجيهات عن الإنارة وطبيعة الديكور ومزاج الشخصية .. وهي أمور يستأنس بها المخرج .


التركيب والتقويــم  :

 ينتمي النص إلى مسرح المجتمع بعرضه القيم والأنساق الفكرية المتحكمة في سلوك الشخصيات ومواقفها، وانتقاده ما يسود المجتمع من تفش للقيم الهجينة، وبتجسيده الصراع الدرامي في بعده الاجتماعي والفكري، مصورا واقع أسرة مصرية تتحايل للحصول على الثروة، ومنظومة قيم متباينة بين أفراد المجتمع الواحد. وقد وظف الكاتب الكنز في بعد رمزي جسدته "درية" المعادل الموضوعي للقيم التي ينبغي أن تهفو إليه نفوس الناس. وتقوم المسرحية على مقومات فنية تتميز بها موضوعا وبناء وأسلوبا كالحوار والصراع والتصعيد الدرامي، والمكونات المسرحية (شخوص، زمان، مكان،  ديكور ..) تشخص لغويا لتشكل المادة الخام للعرض المسرحي، وتحظى بوجود مزدوج يسبق العرض ويصاحبه. ويعبر النص، من خلال أدواته الفنية، عن قضايا يغذيها الصراع النفسي والاجتماعي والفكري بين نماذج تحكمها علاقة التوافق والتضاد، ذلك أن ما يضفي الشرعية على الكتابة الدرامية هو تصاعد حدة الصراع بين النقائض (الوحدة)، وبذلك نتيقن من الفرضية والتي تتعلق بإيثار القيم الروحية والجمالية على القيم المادية في العلاقات بين الناس.

تعليقات