منهجية السؤال : هل تمكننا معرفة الماضي من التحكم في مجرى التاريخ؟

 

منهجية السؤال : هل تمكننا معرفة الماضي من التحكم في مجرى التاريخ؟

السؤال : هل تمكننا معرفة الماضي من التحكم في مجرى التاريخ؟

منهجية السؤال : هل تمكننا معرفة الماضي من التحكم في مجرى التاريخ؟


تحرير الموضوع:


مقدمة:


نتساءل في هذا الموضوع عن إمكانية التحكم في مجرى التاريخ عبر معرفة الماضي. والواقع أن السؤال يدخلنا مباشرة في مجال الوضع البشري من حيث هو وضع تاريخي متسم بالتوتر الدائم بين المعرفة والفعل، وبين الوعي والممارسة، وبين الماضي والحاضر. غير أنه، هنا، يركز بالدرجة الأولى على المعرفة التاريخية ودورها في التحكم في مجرى التاريخ. فهل بإمكان الإنسان التحكم في مجرى التاريخ بفضل ما يعرفه عن ماضيه؟ هل بإمكان المعرفة التاريخية أن تمدنا بما يساعدنا على التحكم في مسار التاريخ؟ هل تمنح المعرفة التاريخية فعلا الفرد أو الجماعة هذا الامتياز؟

التحليل:


نواجه في هذا الموضوع تساؤلا خاصا ومتفردا مؤداه أن بإمكان الإنسان أن يتحكم في مجرى التاريخ بفضل معرفة الماضي. ويمكننا تحليل هذا الطرح من خلال الوقوف على دلالات المفاهيم والألفاظ المكونة لهذه الأطروحة التاريخية. تمثل معرفة الماضي نموذجا للمعرفة التاريخية، على اعتبار أن التاريخ هو العلم بما مضى من أحداث ووقائع، وهي معرفة يبنيها المؤرخ باعتماد منهج معين. أما مجرى التاريخ، فيفيد مساره واتجاهه؛ وقد يكون هذا المسار مستقيما كما قد يكون ملتويا، ولكنه في جميع الأحوال يسير في اتجاه محدد. ولهذا نواجه مشكلا عويصا حين نفترض أن المعرفة التاريخية تسمح لمن يتوفر عليها بأن يتحكم في مسار التاريخ، أي أن يوجه مساره واتجاهه. فهل باستطاعة الإنسان أن يوجه المسار؟ وإذا كان ذلك ممكنا فبأي معنى؟

لكي نجيب عن السؤال لابد لنا بأن نحلل أولا طبيعة المعرفة بالماضي حتى نتبين "حقيقة" التحكم في المسار. تقوم المعرفة بالماضي من حيث هي معرفة تاريخية على جهد منهجي يقوم به المؤرخ المحترف انطلاقا من الوثائق والشواهد التي تمكن من الوصول إليها والتأكد من صحتها بعد فحصها ودراستها وتأطيرها في الزمان والمكان. المعرفة التاريخية هي أولا وأخيرا إعادة بناء للحوادث التاريخية انطلاقا مما توفر من الشواهد؛ فهي معرفة رهينة بهذه الشواهد ومحدودة بحدودها.

فالماضي الذي تمت معرفته هو الماضي الذي شهدت عليه الشواهد واستطاع المؤرخ الوصول إلى معرفته عبر تلك الشواهد فقط، وإلا لاعتبرت معرفته معرفة غير أكيدة، وربما اتهم بالتزوير والاختلاق. وبهذا المعنى، لا تضمن لنا المعرفة التاريخية معرفة الماضي إلا في حدود ما أتاحت الشواهد التأكد من حدوثه؛ فالماضي هو أساس الماضي المستحضر عبر الشواهد ومن خلالها. معرفة الماضي هي دائما معرفة ناقصة ومحدودة بحدود الشواهد والوثائق.

يظهر لنا المشكل بوضوح حين نقول إن "معرفة الماضي تسمح بالتحكم في مجرى التاريخ"، لأن العبر والدروس التي تستخلص من تلك المعرفة تبقى مشروطة ومحدودة بحدود تلك المعرفة، رغم أنها تشكل مكسبا حقيقيا للمجتمع لأنه يعي تاريخه، وبالتالي مساره التاريخي، وتضع له إطارا عاما لتصور المستقبل بناء على استحضار الماضي؛ كما تمنحه فرصة إغناء ذاكرته التاريخية التي تغذي بدورها هويته وإدراكه لذاته. فالمعرفة التاريخية بالماضي، إذن، تلعب دورا حاسما في بلورة اختيارات المجتمع.

ثمة إسهام آخر للمعرفة التاريخية، وهو أنها تجعل الإنسان يعي محددات تاريخه ويستخلص منها العبر التي قد تتحول إلى قوانين تاريخية إذا ما تكررت وانتظمت، مما يجعل العمل بها مؤثرا في مجريات الأمور، لأنها قامت على فهم ودراسة منهجية. ولكن هذه الإفادة تزداد قيمة بالنسبة للإنسان، لأنه يتمتع بالوعي والحرية والإرادة، مما يجعله قادرا على تعديل المسارات عند الضرورة، ونحن نعرف أن التقدم والثورات والتغيرات كلها تدل على نجاح مقاصده المبنية على القصدية والوعي. فالأحداث التاريخية ليست وليدة الصدفة أو الضرورة العمياء، بل هي نتيجة لنوع من القصدية، ولهذا السبب اعتبر الكثيرون أن الوعي التاريخي هو ما يعطي الإنسان القدرة على استشراف المستقبل بحكمة وتصبر...


المناقشة:


إن التأكيد الذي انتهى إليه الموقف القائل بإمكانية التحكم في مجرى التاريخ بفضل معرفة الماضي في التحليل ليس تأكيدا نهائيا ينهي المناقشة، بل إنه تأكيد يفتحها، فأول اعتراض يمكن تقديمه على خلاصة التحليل هي أن المعرفة التاريخية، رغم قيمتها ودورها الكبير في تحرير الوعي الإنساني من ثقل الماضي من طرف المؤرخ، إذ لا يوجد ماض مطلق، بل فقط الماضي الذي استطاع المؤرخ استحضاره، وبالتالي يبقى جزء كبير من التجربة الماضية في عالم المجهول غير المعلوم، إنما لنقص في المناهج أو الشواهد، أو لعوامل أخرى.

أما النقطة الثانية التي تقبل المناقشة، فهي صعوبة القول بوجود قوانين علمية خالصة وثابتة في مجال التاريخ، فالتاريخ لا يخضع لمنطق شفاف قابل للإفصاح عنه بشكل تام ونهائي؛ إذ تبقى الكثير من الأمور غامضة وملتبسة وغير أكيدة. والجماعات والأفراد لا يعيشون فقط باليقينيّات، بل يعيشون أيضا بالشكوك وعدم اليقين. ولهذا السبب، يصعب القول بالتنبؤ بالمستقبل نظرا للتداخل المعقد للعلل. وليست العقد وتعدد العلل هو ما يحدد هذه الصعوبة أو الاستحالة، بل إن للصدفة دورا كبيرا أيضا. وكثير من الأحداث تدين بوجودها للصدفة، وهذا أمر محير في حد ذاته، أن يتحدد مصير الأفراد والجماعات بالصدفة وليس بالإرادة والعقل. والاعتراض الثالث على الموقف القائل بإمكانية التحكم في مجرى التاريخ بفضل معرفة الماضي، هو الاعتراض القائل لا معرفة حقة وأكيدة بما لا يتكرر وبما لا يخضع للضرورة، إذ الحدث التاريخي فريد بطبيعته وخاص بزمانه ومكانه. فمن الصعب الاستفادة من دروس التاريخ، لأن كل مرحلة تتميز بظروفها الخاصة، وبالتالي تبقى العبر دون جدوى، ويظل الجواز هو السمة المميزة للتاريخ...

التركيب:


تبين لنا من خلال التحليل والمناقشة الطابع الإشكالي للموقف من المعرفة التاريخية والقول بدورها في التحكم في مجرى التاريخ. فالإيمان بالوعي التاريخي للإنسان مسألة مصيرية، لأن الوعي التاريخي الذي يتشكل على أساس المعرفة بالتاريخ يؤطر وعيه بالحاضر واستشرافه للمستقبل، ويعطيه إمكانية أكبر للمبادرة. وفي هذا السياق تبقى فكرة التقدم مشروعة، بل ومطلوبة بصفتها مسلمة أخلاقية تسوغ التفاؤل حول مستقبل الإنسانية وحول فاعلية الإنسان. أما محدودية المعرفة التاريخية والوعي المتولد عنها، فإنها محدودية لا تشل فاعلية الإنسان بقدر ما توسع من مجال وعيها بذاتها باعتباره وعيا بالمحدودية والقدرات في الآن نفسه. ويعتبر هذا الأمر مظهرا من المظاهر الأبرز للوضع البشري، أي توتر الإنسان وتوزعه كا بين التحكم في التاريخ والخضوع له.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-