منهجية القولة : إن المساواة واللامساواة التامتين، هما ظالمتان بين أفراد ليسوا متساوين عموما

 

منهجية القولة : إن المساواة واللامساواة التامتين، هما ظالمتان بين أفراد ليسوا متساوين عموما


القولة : "إن المساواة واللامساواة التامتين، هما ظالمتان بين أفراد ليسوا متساوين عموما."

منهجية القولة : إن المساواة واللامساواة التامتين، هما ظالمتان بين أفراد ليسوا متساوين عموما



تحرير الموضوع:


مقدمة:


تطرح القولة، في ارتباطها بالسؤال المرفق بها، إشكالا سياسيا وأخلاقيا يلامس مسألة المساواة واللامساواة في ارتباطهما كنقيضين بمفهوم العدالة. إن المضمون الظاهري والمباشر للقولة يفصح عن طرفين متناقضين، وفي الآن نفسه يشتركان في خاصية واحدة هي خاصية الظلم الذي يناقض العدالة. ومنطقيا يقتضي التناقض بين المساواة واللامساواة غياب أي عنصر يشتركان فيه، كما يقتضي تناقضهما عدل إحداهما وظلم الأخرى. غير أن القولة ترى أنهما معا ظالمتان ومتناقضتان للعدالة، ويرجع ذلك إلى اشتراكهما في خاصية واحدة هي خاصية التمام. فكيف يمكن للتمام أن يتحقق في متناقضين؟ وكيف للتمام أن يكون سببا في نفي العدالة؟


تحليل:


تقتضي المساواة من ناحية السياسة القانونية المنظمة لحياة الجماعة النظر إلى كل الأفراد على أن لهم جميعا، بغض النظر على الجنس أو اللون أو المؤهلات... إلخ، نفس الواجبات ونفس الحقوق، وبالتالي فالكل يتساوى أمام القانون، وكل فرد له الحق في الامتلاك والشغل والتنقل والتمتع بكل الحقوق الطبيعية الضرورية والتي يكفلها القانون والمواثيق الدولية. إنها إذن مساواة تامة ومطلقة لا تراعي في مبدإها الأخلاقي وتطبيقها القانوني، أي اختلافات بين الأفراد، وتنظر إلى الكل داخل وحدة متجانسة. لكن إذا كانت هذه المساواة التامة، من حيث المبدأ العام، مطلبا مشروعا يجب الدفاع عنه بقوة، إلا أن تطبيقها بدون مراعاة الاختلافات الطبيعية بين الناس من شأنه أن يلحق الظلم ببعض الفئات: إما لكونها فئات تتمتع بمؤهلات عالية ومواهب متميزة لا تتوفر في غيرها، مما يستلزم من باب العدل تمييزها عن غيرها وإعطاءها امتيازات خاصة (الأسبقية في العمل، أجر أكبر..)، وإلا سنعمل على إشاعة روح الكسل وقتل روح المبادرة والابتكار والتنافسية المشروعة بين الأفراد والجماعات.


وبالمقابل، فإن توظيف النتائج السابقة واستغلالها لنسف مبدإ المساواة بشكل تام بين الأفراد، على أساس الاختلافات الطبيعية، من شأنه أن يخلق الظلم في المجتمع، ويكرس هيمنة طبقة على أخرى، ويسمح باستغلال فئة لفئة أخرى، وهو الأمر الذي سيؤدي منطقيا إلى أن يصبح وجود القانون الضامن للعدالة قانونا صوريا، بل مطية لتحقيق مصالح فئة على حساب باقي أفراد المجتمع. وهكذا ستؤدي اللامساواة التامة إلى ضياع حقوق الناس وإهدار الكرامة الإنسانية التي لا ينبغي المساس بها لأي اعتبار كيفما كان.


لكن هل يقودنا التحليل السابق إلى إحراج لا حل له؟ يبدو أن أصل الإشكال مرتبط بخاصية التمام؛ فهي التي تقودنا سواء في حالة المساواة التامة رذيلتين معا فلابد كما يقول أرسطو أن نبحث عن الفضيلة بين الرذيلتين، ولن تكون هذه الفضيلة سوى تقنين لكل من المساواة واللامساواة داخل المجتمع عبر التأكيد على أهمية المساواة من حيث المبدأ واعتبار الكل متساو مع الآخرين من حيث الحقوق والواجبات، لكن بالمقابل لابد من خلق اللامساواة المفيدة اجتماعيا بالنسبة للفئات التي تتمتع بمؤهلات عالية أو مواهب متميزة، وأيضا خلق التمييز الإيجابي الذي تكون غايته حماية بعض الفئات مثل تخصيص نسبة تمثيلية محددة للنساء في البرلمان، أو تخصيص حصة من الوظائف العمومية لبعض الفئات ذات الاحتياجات الخاصة.


مناقشة:


تبرز قيمة أطروحة هذه القولة في مراهنتها على مبدإ ظل مضمرا، إنه مبدأ الإنصاف، من حيث هو مبدأ يسعى إلى العمل على تطبيق روح القانون عبر مراعاة الحالات الخاصة التي لا يمكن لعمومية القوانين أن تلم بها. وهو ما أكده أرسطو عندما قال أنه لن يكون أبدا بمقدور قانون أن يشمل، وبكل دقة، الأفضل والأكثر عدلا للجميع، وأن ينص على خير ما يناسبهم جميعا.


لذا فإن الإنصاف ضروري، وهو ذلك المبدأ الأعلى الذي على القوانين الوضعية أن تسترشد به للحفاظ على العدالة من جهة، ومن جهة ثانية، لحماية الحقوق الطبيعية والكونية التي يمكن أن تمس إذا ما تم تطبيق القانون بحرفية تامة. وإذا كان أرسطو قديما قد انتبه إلى أهمية الإنصاف باعتباره شرطا ضروريا لتحقيق العدالة في علاقتها مع المساواة، فإن هذا التأكيد على الإنصاف (وعلى فكرة اللامساواة الإيجابية)، ظل حاضرا وبقوة في كثير من النظريات الفلسفية والسياسية. فلقد أكد "راسل" على أهمية فكرة الإنصاف بالنسبة للفئات التي لا يمكن أن تستفيد من تطبيق تام للمساواة، إذ قال: "يقتضي مبدأ العدالة تحقيق المساواة، إلا في الحالة التي تكون فيها المساواة مفيدة اجتماعيا." والملاحظ أنها نفس الأطروحة التي تتضمنها القولة التي هي موضوع هذا التحليل. كما حاول المفكر المعاصر "جون راولز" في كتابه "نظرية العدالة" إبراز أهمية الربط بين العدالة والإنصاف والتمييز الإيجابي، إذ يرى أنه من الضروري القبول بمبدأ اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية؛ مثل اللامساواة في الثروة الاقتصادية، إذ لا يمكن للدولة أن تمنع أفرادها من بذل المجهود وإبراز إمكاناتهم ومؤهلاتهم. إن كل فرد في المجتمع، له الحق في الاستفادة بالتساوي من نفس الحقوق، لكن دون وضع عوائق أمام أولئك الذين تسمح لهم مواهبهم بلوغ مراتب عليا في المجتمع.


تركيب:


يمكن أن نستنتج، بناء على ما سبق، أن تحقيق المساواة بوصفها مطلبا سياسيا وقانونيا لتحقيق العدالة، إضافة إلى كونها فضيلة أخلاقية مثلى، ليس بالأمر : لا الهين ولا البديهي، مادامت الطبيعة ذاتها لم تجعل الناس سواسية على المستوى الجسدي والنفسي والعقلي. لكن لا يجب أن يتخذ كذريعة لخلق التراتبية الظالمة بين أفراد المجتمع. لذلك يظل الرهان الأكبر، وربما الأصعب، هو بناء توازن بين مساواة عادلة ومنصفة تحترم الاختلافات الطبيعية بين الأفراد، وبين تمييز إيجابي يهدف إلى حماية الفئات التي يمكن أن تتعرض للعنف أو الظلم، مثل الأطفال والنساء والأقليات... إلخ.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-