منهجية القولة : إن ما يجعل الإنسان شخصا، ليس أن يفكر فحسب، بل أن يقول أيضا أنا أفكر
القولة : "إن ما يجعل الإنسان شخصا، ليس أن يفكر فحسب، بل أن يقول أيضا أنا أفكر".
تحرير الموضوع:
مقدمة:
يضعنا موضوع هذه القولة داخل مجال الوضع البشري، بما هو مجال لرسم المحددات الضرورية للوجود البشري، وضمن مفهوم الشخص الذي يدل على الكائن الواعي والعاقل. ويتناول هذا الموضوع بالتحديد إشكالية الهوية الشخصية، وهو الإشكال الذي يمكن التعبير عنه من خلال الأسئلة الآتية: ما الذي يشكل وحدة هذه الهوية الشخصية ويضمن وحدتها واستمراريتها؟ هل الفكر المنعكس على الذات هو أساس تلك الوحدة؟
تحليل:
إذا كان المقصود بالهوية الشخصية هو ذلك الإحساس الذاتي والوعي بوحدة الأنا واستمراريتها، على الرغم من التحولات الكثيرة (جسدية ونفسية وعقلية...) التي تلحق الشخص بما هو ذات واعية وعاقلة، فإن هذا الأساس الضامن لوحدة ولاستمرارية هوية الشخص، إنما تحدده هذه القولة في التعبير عن الذاتي والواعي، عن الأنا المفكرة داخل اللغة، ومعنى ذلك أنه لا يكفي مجرد الانعكاس الداخلي الذي يجعل الشخص في تجربة ذاتية يشعر بذاته ويعيها باطنيا، بل عليه أن يعبر داخلها وبواسطتها عن هذا الوعي بالذات وعن المطابقة التامة مع الذات في جميع الأزمنة. وعندما يتحقق هذا الوعي بالذات ويتمظهر في اللغة، آنذاك فقط نعتبره هو أساس استمرارية الهوية الشخصية والمبدأ الموجه لكل الأنشطة الواعية للذات داخل كل الاختلافات والتغيرات الممكنة. إن النطق ب "أنا" يجعل الإنسان الكائن الفرد شخصا متميزا عن الآخرين، ممتلكا لهوية يعبر عنها داخل عالم التعدد والاختلاف، وهو في النطق ب"أنا" سيعبر عن جسده الخاص، وفكره الخاص الذي يعيه بطريقته الخاصة.
إن الطفل في لحظة من لحظات حياته لا يدرك تميز جسده عن جسد أمه ولا عن العالم الخارجي، ثم بعدها يشرع في الحديث عن ذاته بضمير الغائب، ثم في الأخير يصبح مالكا للأنا الواعية المعبر عنها بضمير الأنا، وهي بالضبط لحظة التعبير عن الهوية الشخصية المميزة له عن الأغيار.
مناقشة:
تتجلى قيمة أطروحة هذه القولة في ربط أساس الهوية الشخصية بالتفكير الذي يتجسد في اللغة، على اعتبار أنها التمظهر الفعلي للتفكير والوعي بالأنا. غير أن عمق إشكال الهوية الشخصية وبعده الفلسفي الميتافيزيقي يفتح أمامنا أبعادا متعددة لهذا الإشكال، مما يغنيه انطلاقا من الوقوف عند أسس كثيرة، أبرزها الجواب الأولي والمؤسس الذي قدمه "جون لوك" الذي أسس الهوية الشخصية من حيث وحدتها واستمراريتها على الذاكرة التي تحفظ وعي الذات بذاتها، وهي أطروحة أقامها على تعريف جد محدد للشخص الذي اعتبره كائنا واعيا عاقلا له القدرة على الانعكاس على ذاته، وفي هذا الجانب من التحديد ما يجعل أطروحة "جون لوك" تكاد تقترب من أطروحة القولة، لولا ذلك التأكيد على أهمية الذاكرة التي اعتبرها "مارسيل بروست" في روايته "البحث عن الزمن الضائع" بمثابة ذلك الحبل الذي يتدلى من السماء لينقذه من هاوية اللاوجود. إن الذاكرة هي أيضا بالنسبة "لبرغسون" ما يسمح للإنسان، على خلاف الحيوان، بالوعي بالذات وبالربط بين الماضي والحاضر واستباق المستقبل. غير أن حصر الهوية الشخصية في الذاكرة من شأنه أن يختزل الإشكال في مجال التفكير والوعي وإهمال عوامل محددة قد تتجاوز مجال الوعي الذاتي لتنفتح على عوامل أخرى من قبيل الغير والمجتمع والرغبة والجسد والإرادة... لذلك سينطلق "شوبنهاور"، في تصوره لأساس الهوية الشخصية من الجسد، الذي ظل مهملا في أغلب الأطروحات الفلسفية السابقة عليه، معتبرا الشخص هو أولا جسد، وأن لكل شخص تجربة حميمية مع جسده، تجربة سابقة عن كل وعي وتعقل، إنها التجربة ذاتها التي ستبين أن أساس الهوية الشخصية يوجد فيما وراء الذاكرة والوعي، وليس هذا الأساس سوى إرادة الحياة التي يقصد بها "شوبنهاور" نواة وجود الإنسان المتمثلة في رغباته العميقة التي تظل حاضرة عندما يصيب الذاكرة التلف أو الضعف بفعل الزمن والشيخوخة، أما الرغبات فتظل، بوصفها القوة العمياء اللاشعورية، الموجه القوي للشخص، والأساس الفعلي لهويته الشخصية.
تركيب:
يمكن أن نستنتج مما سبق أن الشخص يملك هوية شخصية تجعل منه ذاتا تعي ذاتها باستمرار وتحافظ على وحدتها، كما تعي تميزها على الأغيار. وإن تعدد الأطروحات الفلسفية، يكشف عن عمق الإشكال، والتي تشكل مع ذلك سندا أساسيا لباقي المقاربات الأخرى، مثل المقاربة الأخلاقية والمقاربة القانونية، فالإقرار بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية، ثم ما يلحق ذلك من عقوبات، أمر لا يمكن أن يأخذ معنى وقيمة إلا بالإقرار الواضح أن الشخص هو هو عندما قام بالفعل، بغض النظر عن زمان إتيان الفعل الذي قام به ذلك الشخص.