منهجية السؤال : هل يمكن اعتبار اتفاق الآراء معياراً للحقيقة؟

 

منهجية السؤال : هل يمكن اعتبار اتفاق الآراء معياراً للحقيقة؟


السؤال : هل يمكن اعتبار اتفاق الآراء معياراً للحقيقة؟


منهجية السؤال : هل يمكن اعتبار اتفاق الآراء معياراً للحقيقة؟



تحرير الموضوع:


مقدمة: 


يشكل البحث عن الحقيقة هاجسا أساسيا بالنسبة للإنسان. وقد لا يخلو حديثه اليومي من استعمال مفهوم الحقيقة أو سماعه. وكلنا يبحث بحثا عن الحقيقة في وسائل الإعلام والجرائد، إذ إن هناك قناعة قوية بأن الحقيقة "هناك" وما علينا إلا البحث عنها. وفي  سياق أهمية الحقيقة، يأتي هذا السؤال لرفع كل بداهة خادعة حول المفهوم، سواء من حيث طبيعته ومصادره ومعاييره. وما أسئلة من قبيل: ما الحقيقة؟ هل هي واحدة أو متعددة؟ هل هي معطاة أو مبنية؟ إلا دعوة للتفكير في المفهوم، وإبراز الإشكالات التي يطرحها. ومن بين هذه الإشكالات الإشكال الذي يطرحه السؤال، وهو إشكال معيار الحقيقة، وهل يمكن اعتبار اتفاق الآراء واجتماعها ضامنا للحقيقة ومؤسسا لها؟


تحليل:


قد نعتبر المنطوق الظاهري للسؤال منطوقا يهدف إلى التأكيد على أن معيار الحقيقة والمميز لها عن أضدادها مثل اللاحقيقة والكذب والزيف والوهم... معيار وميزان نجده في ما يتم من اتفاق بين الأفراد والجماعات حول آراء معينة تصبح حقيقة لا نقاش فيها. ومن ثم فإن ما تصرح به الجماعة وآراؤها حول موضوع ما، هو القول الحقيقي الذي على الكل ليس الاعتقاد به، وإنما الالتزام به فكريا وسلوكيا. وبالتالي فإن كل ما يخرج عن نطاق آراء الجماعة فهو غير حقيقي ويجانب الصواب، لا لشيء سوى أنه يخالف ما اجتمعت عليه آراء الكل. ومن هنا تصبح الحقيقة موضوع اتفاق اجتماعي؛ إما مصرح به أو علني، ينساق الناس إليها طواعية أو كرها. وغالبا ما يشكل طابع الحقيقة الجماعي والعفوي والنفعي مصدر قوتها ونفوذها ما دامت بوصفها حكما يحاول إبراز ذاته في توافق، إما مع الواقع أو غيره، ويعمل على تحقيق توازنات فكرية أو سياسية لفائدة الجماعة.


إن الحقيقة من هذا المنظور لا تقتصر على ما هو مرتبط بمواضيع يومية وبسيطة، وإنما تشمل كل ما يرتبط بالوجود والمعرفة والقيم. فحقائق الوجود والموت والحياة والقيم، والحكم والتدبير العمومي... كلها قضايا تجد معيار حقيقتها في ما يشكل اتفاق الجماعة من تقاليد متواترة أو إجماع "الأمة"، كما هو الأمر في المجتمعات العربية الإسلامية التي يشكل الإجماع بالنسبة لها مصدرا من مصادر التشريع، والتمييز بين الحقيقة وما ليس حقيقة بين ما يجب اتباعه وما يجب تركه. كما شكل اتفاق رجال الكنيسة وسلطتهم، في العصور الوسطى، معيارا لتثبيت ما يرونه حقيقيا حتى في الأمور العلمية، مثل مركزية الكرة الأرضية، وهي الحقيقة ذاتها التي حوربت بها كل النظريات العلمية المعارضة لحقيقة السلطة المعرفية الكنسية.


مناقشة:


إن المسير المأساوي الذي انتهى إليه "غاليلي"، رغم صحة نظريته، والتي ستصبح حقيقة مفروضة على كل العقول، مثال يبين أن الحقيقة، بشكل عام وفي كل المجالات، لا تبنى ولا تصاغ اعتمادا على الظن والاعتقاد أو اليقين العاطفي والنفسي المرتبط بالمنفعة الجماعية، بل بناء على الجهد الفكري المنظم والنقدي، والذي لا يأخذ بالطابع النفعي للآراء الثانوية وراء ما نعتقده حقيقة؛ لأن الرأي أو الظن (في المعرفة العلمية خصوصا) كما يقول "باشلار" يفكر بشكل سيء، إنه لا يفكر، إنه يعبر فقط عن حاجات ومنفعة مباشرة. لذلك يعتبر "باشلار" أنّ الحقيقة تعلن عن ميلادها ضدا على الرأي الشائع، وفي قطيعة معرفية مع ماض كان موضوع اتفاق، وأنه بذلك شكل عائقا أمام تطور المعرفة العلمية.


لقد بينت النظريات وحقائقها في خضم الصراع مع الرأي الشائع ومع ما تعتبره الجماعة حقيقة، إذ إن الحقيقة لا تقاس بمقياس عدد القائلين بها والمعتقدين في قوتها كما قال "سقراط"، الذي رفض طريق إثبات الحقيقة عبر كثرة الشهود، مؤكدا أن الشاهد على الحقيقة غير البرهان. إن الحقيقة عندما تفرض بمرجعية الاتفاق العام للآراء الرافض لكل حقيقة أخرى، تصبح سلاحا موجها لحرية الفكر، وذريعة لمحاربة كل معارض، بل عقوبة الموت لكل من يعارضها (غاليلي مثلا)، وهو المصير ذاته الذي يلقاه كل من عارض "حقائق" الأنظمة التوليتارية أو الشمولية التي لا تقبل بأي حقيقة خارج ما يقوم به النظام العام.


تركيب:


يشكل البحث الفلسفي في مفهوم الحقيقة، أهمية بالغة، لأن كل موقف قد يختاره المرء، من معيار الحقيقة، إلا وله انعكاسات كبرى على مجالات البحث الأخرى الفكرية والسياسية والقيمية وعلى الحياة. فالقول: إن معيار الحقيقة هو اتفاق الآراء، من شأنه جعل الحقيقة ووحدتها ذريعة للوقوف أمام كل اجتهاد فكري قائم على التفرد والأصالة. كما أن اتفاق الآراء والإجماع حول الحقيقة يمكن النظر إليه، إذا كان مؤسسا على منهجية علمية، داخل إطار عمل يضم أصحاب التخصص، أسلوبا يسمح بتحصين الحقيقة وإضفاء الطابع الشمولي والكوني عليها، حتى لا يسقط معيار الحقيقة في النسبية السفسطائية التي اعتبرت كل فرد مقياسا للحقيقة.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-