منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال مفهوم السعادة

 
منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال مفهوم السعادة


منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال مفهوم السعادة

إشكال مفهوم السعادة


النص:


 "إن الرجل الحكيم العاقل يستطيع بكسرة خبز وجرعة ماء أن يكون سعيدا. ولنقل نحن إنه ينبغي عليه أن يكون كذلك. وما دامت وصفة السعادة بسيطة بهذا الشكل، فإننا يحق لنا أن نتساءل لماذا لا يستخدمها إلا قلة ضئيلة من الناس؟ ربما لأنه بكسرة خبز وجرعة ماء ينبغي على الإنسان أن يكون سعيدا، لكنه ليس كذلك بالفعل، وهو إذا لم يكن كذلك، فليس من الضروري أن يكون السبب أنه يفتقر إلى الحكمة، بل إن السبب ببساطة هو أنه إنسان. وكل ما هو عميق بداخله ينكر تلك الحكمة ويخالفها في كل لحظة. ويبدو كما لو أن المرء لا يستطيع أن يسعى إلا وراء سعادته هو الخاصة، لكن يعجز تماما عن بلوغها، لأنه على الرغم من أن كل شيء يسره ويبهجه فلا شيء يرضيه ويكفيه. فمن يملك ضيعة واسعة لا تزال لديه الرغبة في ضم أملاك جديدة وأراض جديدة إليها، والرجل يريد أن يضيف إلى ثرائه ثراء جديدا، وإلى ثروته المزيد من الثروة... والواقع أن هذه التجربة مشتركة وعامة ويعرفها الجميع، لكن من المهم أن نتذكرها هنا... أن كل لذة بشرية مرغوبة، لكنها باستمرار ليست كافية أبدا.
هذا السعي الدؤوب وراء إشباع مراوغ ينبع من أغوار سحيقة قلقة في الطبيعة البشرية، ذلك القلق الغامض، لكنه مع ذلك مؤثر على مخلوق يسعى وراء سعادته ولا يعرف السلام إلى نفسه طريقا."


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتأطر هذا النص داخل مجال الإشكالية لمجزوءة الأخلاق، وخصوصا ضمن مفهوم السعادة، الذي يشكل إحدى أهم غايات الفعل الإنساني، على اعتبار أن كل إنسان يسعى سعيا إلى السعادة ويحرص على تجنب الشقاء. ولا يمكن ان نتصور  إنسانا يروم عكس ذلك، أي أن يرغب في الشقاء ويرغب عن السعادة. غير أن مفهوم السعادة، إذا كان يشكل مطلبا موحدا لكل إنسان، فهو في الآن ذاته يضمر مفارقة كبيرة وهي: أن لا اتفاق على الإطلاق حول ماهية السعادة، ليس فقط بين الأفراد فيما بينهم، ولكن الأمر أيضا بالنسبة للفرد الواحد الذي قد يحدد اليوم ماهية السعادة في الحصول على الثروة، وغدا قد يحددها في الصحة، ويظل المفهوم يتغير ويتحول بتغير أحوال الفرد. فهل يمكن إعطاء تعريف ولو تقريبي لمفهوم السعادة؟ وهل هي، من حيث كونها غاية الفعل الإنساني، ممكنة التحقق أم أنها بعيدة المنال؟


تحليل:


ينطلق صاحب النص من فكرة أولية، وهي أن الإنسان إذا ما كان حكيما مقدرا بعقله وحكمته ما هو ضروري لكي يحصل على السعادة والسكينة والطمأنينة، فإن مجرد توفره على قطعة خبز وجرعة ماء يمكن أن يحقق سعادته وسكينته ما دام يتوفر على ما هو ضروري لكي يظل على قيد الحياة. غير أن هذه الفكرة سرعان ما تتبدد بداهتها عندما يتساءل صاحب النص عن سر عدم تطبيقها كوصفة لبلوغ السعادة. وإن الأمر بالنسبة إليه، وهو ما يشكل أطروحة هذا النص، لا يتعلق باتصاف الإنسان بالحكمة أو عدم اتصافه بها. تكمن المشكلة في الإنسان بما هو إنسان، فهو يفرح عندما يحقق الثراء والمجد والشهرة... لكن لا شيء يرضيه، فرغباته التي هي ماهيته، باعتبارها كائنا راغبا كما قال "سبينوزا"، تجعله في بحث لا ينتهي عن إشباع الرغبات التي تتجدد وتتنوع بمجرد إشباع رغبة محددة، بل حصوله على الثروة يجعله راغبا في زيادة ثروة عليها، وهو الشيء نفسه بالنسبة لكل الرغبات الأخرى. وما تقديم صاحب النص لأمثلة محسوسة كثيرة ومتنوعة إلا لتدعيم أطروحته وجعلها قابلة للتصديق، ما دامت هذه الأطروحة تقوم على وقائع معيشية يدركها كل فرد كيفما كانت درجة معرفته. وإن هذا السعي الحثيث لتحقيق الرغبات اللامتناهية هو السر في أن الإنسان سيظل يبحث عن تحقيق السعادة دون أن يبلغها، ودون أن يحقق لذاته السلم والطمأنينة.


مناقشة:


يمكن القول إن أطروحة هذا النص تجد جذورها النظرية في فلسفة "جون جاك روسو"، ثم من بعده "إمانويل كانط". لقد ذهب "روسو" إلى أن الإنسان عرف السعادة فقط في حالة الطبيعة يوم كانت رغباته تتوافق مع قدراته، غير أن تطور الحضارة، وما صاحب ذلك من خلق مستمر لكماليات سرعان ما تحولت إلى ضروريات، خلق هوة سحيقة بين رغبات الإنسان وقدراته، وبقدر سعيه وراء السعادة، بقدر ابتعاده عنها، إلى حد يمكن القول بأن السعادة ماض لا حاضر ولا مستقبل لها. وفي نفس السياق يذهب "كانط" إلى التأكيد على لبس مفهوم السعادة، وتباين تمثلات الناس لها لكون عناصر المفهوم تستمد من سلسلة لا متناهية من الخبرات التجريبية، مما جعل "كانط" يعتبر السعادة مثالا للخيال وليس مفهوما عقليا قابلا للتعريف والتحديد، وهو ما يجعل تحقيق السعادة أمرا بعيد المنال. في مقابل هذا، الأطروحة التي جعلت السعادة مطلبا غير قابلا للتحقيق، نجد من الفلاسفة من اعتبر السعادة ممكنة إذا ما هذب المرء ذوقه، وإذا ما استثمر ما أبدعته الإنسانية من فنون قادرة على السمو بها وتحقيق سعادته، وهو الموقف الذي ذهب إليه "دافيد هيوم". أما الفيلسوف الفرنسي المشهور باسم "آلان" فقد وضع مفهوم السعادة في الفعل والممارسة وما يتطلب ذلك من واجب نحو الذات ونحو الآخرين، فلا يمكن أن نحقق  السعادة للآخرين ونحن نحرم أنفسنا منها، كما لا يمكن تحقيق السعادة على حساب شقاء الآخرين. إن السعادة هي ذلك الجهد الجماعي الذي نبذله لنزع الآلام عن الذات وعن الآخرين.


تركيب:


إن السعادة، بوصفها قيمة أخلاقية، تشكل مطلب كل إنسان، ولكي تكون فعلا ذات بعد أخلاقي، فلابد أن تكون واجبا نحو الذات لكن بدون أنانية مفرطة. وأن تكون أيضا واجبا نحو الغير، لكن بدون أن تكون تضحية مدمرة.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-