منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال علمية المعرفة التاريخية

 

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال علمية المعرفة التاريخية 

 إشكال علمية المعرفة التاريخية 

النص : 


إن التاريخ معرفة دون أن يكون علما، لأنه لا يتعرف في أي مجال من مجالاته على الخاص بواسطة الكوني، بل عليه أن يحيط مباشرة بالواقع المفرد. وبصيغة أخرى، إن التاريخ محكوم عليه بالزحف ملتصقا بميدان التجربة العينية. وعلى العكس من ذلك فإن العلوم الحقة تحلق عاليا بفضل المفاهيم الشاملة التي اكتسبتها، والتي تتيح لها السيطرة على الخاص، وعلى إدراك الأشياء التي تندرج داخل مجالها (...) لا تتحدث العلوم أبدا، بوصفها أنساقا من المفاهيم، إلا عما هو كوني، بينما لا يدرس التاريخ إلى الحالات الخاصة. والقول بأن التاريخ علم بهذه الحالات الخاصة قول يسقطنا في التناقض. كما ينتج عن ذلك أن العلوم كلها تتناول ما هو متكرر وعام، في حين أن التاريخ يحيل على ما لا يتكرر. أضف إلى ذلك، أن التاريخ إذ لا يهتم سوى بالخاص أو المفرد، الذي لا يمكن الإحاطة به كلية بحجم طبيعته، لن يبلغ سوى معرفة تبقى دائما ناقصة. وعلى التاريخ أيضا أن يقنع بما يخبره به كل يوم جديد، في رتابته وابتذاله، بما كان يجهله بالأمس.


منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال علمية المعرفة التاريخية


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، على الأقل لحدود الآن، بكونه كائنا يعي وجوده في الزمان والمكان، وهي الخاصية التي تسم وضعه البشري بطابع إشكالي يتداخل فيه وجوده في أبعاده المختلفة مع معرفته بذاته وغيره وبزمانه ومكانه. من هنا دلالة التاريخ بالنسبة للإنسان، سواء بصفته نمط وجود متميز (الإنسان كائن تاريخي)، أو بصفته وعيا ومعرفة بهذه الميزة (الإنسان يعي تاريخه ويكتبه). فهل ارتقت المعرفة بتاريخه إلى درجة العلو الدقيق مثلما ارتقت معرفته بالطبيعة إلى درجة العلم؟


تحليل:


يجيب صاحب النص عن هذا السؤال منذ البداية بإقرار عام وحاسم، هو أن "التاريخ معرفة وليس علما". مما يعني أن صاحب النص يقيم تمييزا قاطعا بين المعرفة من جهة، والعلم من جهة ثانية. ويعتبر النص كاملا توضيحيا وبناء لهذا الجواب العام.

يسجل صاحب النص افتقاد المعرفة التاريخية للمفهوم بالمعنى العلمي، حيث يكون بمقدور العلم معرفة ودراسة ما هو خاص، مثلا أي ظاهرة من الظواهر الطبيعية مهما بدت متفردة انطلاقا من مفهوم علمي عام وكوني يستوعب تلك الخصوصية وذلك المستوى (سواء كان على مستوى الفيزياء الكلاسيكية، أو الكسمولوجيا، أو الميكروفيزياء) انطلاقا من قوانين عامة. فقانون الجاذبية هو بالنسبة للفيزياء الكلاسيكية قانون عام وكوني (داخل المنظومة الشمسية) يفسر العديد من الظواهر الطبيعية الخاصة، ويجمعها ضمن نسق تفسيري محدد (سواء حركة النجوم والكواكب، أو انتظام الخسوف والكسوف، أو المد والجزر، أو سرعة الرياح، أو كيفية تخلص السفن الفضائية والصواريخ من جاذبية الكوكب الأرضي).


يظهر من خلال موقف صاحب النص أنه يتبنى نموذجية علمية هي ما يسمى العلوم الحقة انطلاقا من خصائصها المفهومية التي يحددها أساساً في الكونية والتجريد والقابلية للتعميم، مع ما تسمح به من قدرة على التنبؤ والاستباق. كما أن هذه السمات كلها تجعل العالم قابلا للصياغة الرياضية المجردة، حيث يفسر الخاص ضمن معادلة أو قانون مجرد يعبر عن مفهوم علمي شامل (قانون الجاذبية الكونية، مثلا)، ومعرف تعريفا دقيقا. فهذا المفهوم هو الذي يجعل "العلم يحلق عاليا". وينبغي أن نفهم من هذه العبارة القدرة الفائقة التي للعلم على التجريد والتي تجعله يتحكم في كل الظواهر، كما قلنا ذلك سابقا.


مقابل هذه الخاصية للعلم، باعتباره علما، والتي تجعله في نظر صاحب النص في رتبة أعلى من التاريخ الذي يبقى في حدود المعرفة. يرى صاحب النص أن "التاريخ محكوم عليه بالزحف ملتصقا بميدان التجربة العينية". ويمكن اعتبار أن هذه الجملة لوحدها تقول تقريبا كل شيء، بل يمكن القول إن إقرار صاحب النص بكامله يقوم على هذه المقابلة بين الأعلى والالتصاق بالأرض بين المجرد والملموس العيني، بين العام والخاص، بين المتكرر والمتفرد، بين دقة المعرفة العلمية بالظاهرة المدروسة ونسبية المعرفة التاريخية بما وقع من الأحداث، فهي معرفة مرهونة بنقص أساس يجعل الإنسان غير قادر على الإلمام بكل ما يقع لدرجة تسمح له باستنتاج قانون عام يفسر الظاهرة. لهذا يصرح النص:"إن التاريخ علم قول يسقطنا في التناقض" لأن كل ما يسم المعرفة التاريخية من سمات يبعدها عن العلمية كما يفهمها صاحب النص.


والواقع أن موضوع المعرفة التاريخية موضوع شائك ومعقد، فهو حدث متفرد لا يتكرر، لا في الزمان ولا في المكان، ولا تكون له نفس الدوافع والمعاني بالنسبة لجميع المعنيين فيه. فالحروب لا تتشابه وإن جمعت بينها أرقام التتالي: الحرب العالمية الأولى، والثانية، أو حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، إلخ. فهي ليست نسخا طبق الأصل، بل ليس لها نفس البنية الثابتة كبنية المد أو الجزر، أو ظاهرة سقوط الأجسام التي تبقى محكومة بمحددات عامة  وكونية. وهو بالضبط ما لا يصدق على أي ظاهرة من الظواهر التاريخية. ومن هنا نفهم قوة عبارة صاحب النص: "محكوم عليه بالزحف ملتصقا بالتجربة العينية". كأن قدر التاريخ هو الزحف بما يعنيه من تقدم بطيء، لا هو بالمشي السريع ولا بالجري، فبالأحرى التحليق عاليا. 

يستعمل النص من الناحية الحجاجية استعارة مجازية يصبح معها التاريخ شبيها بالزواحف المرتبطة بالأرض والماء، وليس الطيور الذي تحلق عاليا بجناحيها وتنظر من عل إلى ما يجري تحت؛ وكأنه يقول إن أجنحة العلم هي مفاهيمه التي تجعله يجرد ويرتفع عن الخاص لما هو كوني، ومصداقية التاريخ هي أن يلتصق بالأرض، أي بتفاصيل ما يقع عليها. ونحن نعرف أن من أقوى أعضاء الزواحف أرجلها التي تعطيها قوة، فهل يعتقد صاحب النص أن تفاصيل الوقائع ودقائقها بالنسبة للتاريخ في أهميتها هي كأهمية الأرجل بالنسبة للزواحف لتزحف بها على الأرض؟ نعتقد ذلك، لا سيما وأن التفاصيل هي التي تعطي الوقائع التاريخية معناها ودلالتها، لأن تلك التفاصيل هي من تفاصيل الحياة الجماعية واختلاف الظروف والملابسات. وهي كلها مفتوحة ولانهائية، لا تقبل التعميم ولا يحصرها التكميم الرياضي. لهذا فعلى التاريخ أن "يقنع بما يخبره به كل يوم جديد (...) بما كان يجهله بالأمس". يتعلق الأمر بالقناعة، أي أن يقف التاريخ عند حد معلوم، وأن لا يتجاوز طموحه حدوده.

فإلى أي حد يمكن أن نقبل بأطروحة صاحب النص باعتبارها جوابا عن السؤال الذي طرحناه في تقديمنا الإشكالي العام؟ سؤال يدفعنا إلى مناقشة أطروحة النص وحجاجه وقيمته.


مناقشة:


 لا تعتبر هذه الأطروحة غريبة، فهي معروفة عند الكثير من المفكرين والفلاسفة الذين لا يعتبرون التاريخ علما. لقد سبق "لبول فاليري" أن شكك في المعرفة التاريخية بالنظر إلى ادعائها، من وجهة نظره، ما لا تستطيعه: المعرفة الحقة والدقيقة بالأمور الإنسانية "لا يعلمنا التاريخ شيئا دقيقا، لأنه يتضمن كل شيء، ويقدم الأمثلة عن كل شيء." ونفس المفكر كتب مشككا في قدرة التاريخ على التنبؤ: "ولكن من لا يرى أن التنبؤ لم يعد في مقدورنا، كما أن حصر التبعات المباشرة لما نقوم به لم يعد ممكنا".

نفس الموقف نجده عند من يعطي الصدفة دورا في التاريخ، ويرى فيها ما يمنع من أن يكون التاريخ علما بالمعنى المتداول، والذي يفترض صاحب النص. كان "فولتير" يصف الصدفة بـ"صاحب الجلالة"، إذ كان لها في تصوره دور عظيم في التاريخ. ولا يمكن لتاريخ تسود فيه الصدفة أن يكون علما بالمعنى الدقيق.


لكن في الوقت الذي نجد فيه أطروحات تؤكد أطروحة صاحب النص وتدعمها، فإننا على مستوى آخر، نجد أطروحات ترفض هذه الأطروحة وتعتبرها مجرد ادعاء. فرغم افتقاد المعرفة التاريخية للمفهوم العام والكوني بالمعنى الذي نجده في العلوم الحقة، فإنها تبقى معرفة محكومة منهجيا، ومضبوطة عبر مجموعة من العمليات المنهجية التي تستهدف التأكد من الوقوع الفعلي للحدث التاريخي في الزمان والمكان، انطلاقا من شهادة الدليل المادي القاطع الذي يمكن أن يكون وثيقة مكتوبة أو معاهدة، أو بناء، إلخ. فالمعرفة التاريخية تنشد الحقيقة وتحاول بناءها، مع احترام شروط محددة تبعد التاريخ ما أمكن عن التزوير والتلفيق. كما أن المعرفة التاريخية تستند على علوم مساعدة دقيقة كالأركيولوجيا والتحليل الكميائي للبقايا والوثائق. وهي في نشدانها ذلك تعرف أنها لن تكون غير حقيقية نسبية قابلة لأن تراجع وتصحح وتقارن بأخرى. فالمعرفة التاريخية تنشد العلمية، غير أنها لا تتطابق تماما مع علمية العلوم الحقة، حتى وإن اعتقد الاتجاه الوضعي أن التاريخ علم يقوم على أساس وثائقي يفحص داخليا (النقد الداخلي)، وخارجيا (النقد الخارجي). فالتاريخ يخص أفعال البشر، وهي أفعال لها أبعاد ودلالات لا نهائية.


وإذا كانت كثرة الوقائع التاريخية هي بالضبط ما لا يستطيع التاريخ، حسب صاحب النص، السيطرة عليه بالمفهوم العام والكوني، فإن هذه الملاحظة أو الإقرار لم يمنع مدارس معينة من السيطرة على هذه الكثرة والتنوع بمفاهيم تركيبية ليست كمفاهيم الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا، ولكنها مفاهيم بنت نوعا من العمومية جعلت أصحابها يرون فيها قوانين للتطور البشري. فالماركسية تعتبر التاريخ علما لأنه اكتشف قوانين التطور التاريخي، ونحت مفاهيم جمعت التنوع كمفهوم نمط الإنتاج، أو قوى الإنتاج، أو الصراع الطبقي. وكان ماركس يقول: "نحن لا نعرف إلا علما واحدا هو علم التاريخ". وقد أعطى هذا التصور للتاريخ، ليس فقط وظيفة فهم العالم وتفسيره، بل حتى وظيفة تغييره بناء على قوانين التطور التاريخي، تماما كما نغير الطبيعة عبر التحكم في قوانينها. غير أن فشل هذه المحاولات التاريخية الكبيرة ألزم المفكرين بمراجعة هذا المفهوم التاريخي وتبني مفهوم آخر أكثر انفتاحا واستيعابا لديناميات الفعل التاريخي، مما أعطى للفهم والتأويل وتنسيب الحكم والتقدير أهمية أكبر في هذه المعرفة التي تطالب بعملية تراعي الطبيعة المعقدة للموضوع الذي يتداخل فيه ما هو معنوي مع ماهو مادي.


كان "ريمون أرون" يحدد رهان المعرفة التاريخية في محاولة استرجاع الماضي بكيفية يحترم فيها الاسترجاع للماضي اللايقين اللذين كانا عند الفاعلين آنذاك بخصوص مستقبل ما يقومون به. كان يقول: "كل مجهود التأريخ (عمل المؤرخ) يقوم على استرجاع الماضي ومعه لا يقين المستقبل الخاص به"، علما أن الحدث التاريخي لا يتكرر. فالتاريخ معرفة بما وقع، ولن يقع مرة ثانية على الأقل بنفس الكيفية ونفس الغايات، فموضوعه ليس كموضوع العلم الفيزيائي بما هو موجود ويتكرر حسب قانون قار؛ فهو إذن ليس ميكانيكا.ذ


إن المؤرخ لا يفهم الماضي بصفة نهائية، والسببية التاريخية هي أساس سببية تحليلية، متفردة وجزئية احتمالية، لهذا نعتبر أطروحة صاحب النص القائلة: إن التاريخ معرفة وليس علما مسألة تقبل المراجعة والفحص من نواحٍ عدة، خصوصا أن التفكير في الفعل الإنساني، تجاوز الأطر الكلاسيكية المحددة للفعل الإنساني واصبح يعطي أهمية للمحتمل والمفاجئ والصدفة وحرية الإنسان في التعامل مع الإكراهات الزمانية والمكانية، وإن كانت هذه الأخيرة تشرطه. فحرية الإنسان وإرادته وسعيه الدائم نحو السعادة، أو ما يعتقد أنه السعادة، تجعله يسعى لفهم عمله داخل سيرورة تربط حاضره بماض وبمستقبل يجب أن يسكن أحلامه. لهذا تأخذ المعرفة التاريخية صيغة موضوعية، لأنها تسعى إلى معرفة ما وقع بالفعل، ولكنها تبقى في نفس الآن معرفة ذات طابع ذاتي أساسي لا يمكن أن تتخلى عنه دون أن تتخلى عن إنسانيتها.


تركيب:


انطلاقا من التحليل والمناقشة، تبين لنا أن علم التاريخ لا يمكن الحكم على علميته انطلاقا من نموذجية العلوم الطبيعية أو الرياضية، ولا من خلال خصائص المفهوم العلمي في هذه العلوم. فعلاقة العام بالخاص في التاريخ، مثلا، هي علاقة الجزء (الذي يبقى مشروطا منهجيا ببنائه ومحدودا) بالكل الوجودي والتاريخي الإنساني (غير القابل للمعرفة بصفة نهائية وكلية)، لا علاقة الحال بالقاعدة كما في مجال العلوم؛ إضافة غلى ذلك، فالتاريخ هو المجال المفتوح للفعل الإنساني الذي لا يمكن حصره في مجال العلم فقط، لأن هناك مجالات أخرى يحقق فيها الإنسان تاريخيته المبدعة التي لا يستوعبها العلم، وإنما تتعداه إلى مجال الفن والأدب والسياسة، حيث الحرية هي مطلب وممارسة أكثر منها علما.

بهذا المعنى، يمكننا القول: إن التاريخ علم ومعرفة، وليس علما فقط ولا معرفة فقط. ففي التاريخ تلتقي المعرفة الإنسانية في كل أبعادها بعلم لا زال مستمرا في بناء ذاته، وسيبقى كذلك ما بقيت التجربة التاريخية مفتوحة بصفتها فعلا تاريخيا ووعيا بهذا الفعل.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-