منهجية القولة : إشكال بناء المعرفة

 


منهجية القولة : إشكال بناء المعرفة

إشكال بناء المعرفة


القولة:


"لكي يكون المجرب جديرا بهذه الصفة، عليه أن يكون منظرا وممارسا في الوقت نفسه... فاليد الماهرة التي لا يوجهها عقل هي أداة عمياء، والعقل دون اليد التي تنجز يظل عاجزا."

منهجية القولة : إشكال بناء المعرفة


تحرير الموضوع:


مقدمة:


 تتأطر هذه القولة داخل مجال المعرفة العلمية التي تطرح مشكلة بناء المعرفة، أدواتها، مناهجها وغاياتها، والإشكال الذي تطرحه القولة هو إشكال العلاقة بين "العقل" و"اليد"، فالعالم الحقيقي حسب القولة هو العالم التجريبي الذي يجمع بين تفكيره النظري "العقل"، وعمله التجريبي اليدوي داخل المختبر. فاليد الماهرة أو المجربة لابد لها من تفكير عقلي منظم يوجهها، غير أن العقل وحده يبقى عاجزا عن بناء تجربة علمية.

فما هي خصوصية التجربة العلمية؟ وهل التجربة وحدها كافية لتكوين معرفة علمية؟ ألا يحتاج العقل لمن يوجهه في عالم التجربة؟


تحليل:


تقدم القولة إثباتا حول العلم التجريبي بوصفه علما يقوم على العقل الذي يفكر ويوجه، وعلى اليد التي تعمل وتجرب، من هنا تؤكد الأطروحة على نظرة تكاملية بين التفكير النظري في قضايا العلم التجريبي، والتجربة الميدانية الخاضعة لقواعد المنهج التجريبي. هذا الموقف الإبستيمولوجي من المعرفة العلمية يجد أساسه في تاريخ العلم الفيزيائي والبيولوجي بدءا من القرن 18، فالعقل العلمي مع "غاليلي" و"نيوتن" هو عقل رياضي يبني المفاهيم ويصوغ الظواهر عبر قوانين علمية رياضية، كما أن التجربة هي لحظة أساسية من لحظات بناء النظرية العلمية، فهي اللحظة الحاسمة التي نتأكد من خلالها من صحة الفروض التي ينطلق منها العالم.


إن الموضوع العلمي، من خلال هذه الأطروحة التجريبية، هو استنطاق منهجي للطبيعة عبر إخضاعها لخطوات علمية منظمة تقوم على الملاحظة والافتراض والتجريب وصياغة القوانين صياغة رياضية. وهذا ما يجعل هذه الأطروحة أطروحة تجريبية تنتصر للاتجاه التجريبي المرن في العلم، وليس إلى الأطروحة العقلانية التي تعتبر التجربة العلمية لا قيمة لها من الناحية الإبستمولوجية.

إن القولة وإن كانت في الظاهر تؤكد على الطابع التكاملي لبناء النظرية العلمية، فإنها مع ذلك تنطلق من التأكيد على الصفة الجوهرية التي تميز العالم التجريبي وليس العالم العقلاني. فما هي حدود هذه الأطروحة؟ وما طبيعة العلاقة بين النظرية والتجربة في بناء المعرفة العلمية؟


المناقشة:


قد نجد في بعض الأطروحات التجريبية ما يدعم، جزئيا، أطروحة صاحب القولة، وفي مقدمة هذه الأطروحات أطروحة العالم البيولوجي "كلود برنار" الذي يرى أن العالم التجريبي الحقيقي هو الذي يجمع بين الممارسة العلمية التجريبية والممارسة العقلية النظرية. فملاحظة الظاهرة لا يمكن أن تتم دون أسئلة نظرية موجهة، والافتراض هو تفسير مؤقت لأسباب حدوث الظاهرة، والتجربة هي إعادة أحداث الظاهرة داخل مختبر في شروط مصطنعة للتأكد من خطأ أو صحة الفرضية.


والقانون هو صياغة رياضية لعلاقة بين متغيرين أو أكثر. هذه الخطوات التجريبية تقوم على الموضوعية والاستقرار، ودور العالم التجريبي هو "الإنصات" بموضوعية لما تقوله الطبيعة قبل استنطاقها. غير أن هذا التصور الكلاسيكي للعلم، وإن انتصر في تاريخ محدد من التاريخ الفيزيائي، سيجد صعوبة كبيرة في الاشتغال على ظواهر علمية جديدة، خاصة في مجال الخلية والذرة. إن المفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري للفيزياء مثلا لا تقوم على الواقع التجريبي، بل على العقل الرياضي المبدع القادر على بناء الموضوع العلمي الذي يعتبر موضوعا مجردا يقوم على علاقات رمزية رياضية، وليس على حدوس تجريبية، وهذا ما أكد عليه العالم والإبستمولوجي "إينشتاين" في كتابه "كيف أرى العالم؟". كما أن التجريب العلمي لا يلغي دور الخيال في بناء الموضوع العلمي إذا لا يمكن أن نحصر دور التجربة في مسألة التأكيد أو نقل ما هو موضوعي في العالم الخارجي، فالتجريب العلمي في معناه الكلاسيكي ليس هو المفهوم الوحيد في تفسير الظواهر، بل لابد من إدخال عنصر الخيال لإغناء التجربة العلمية.


إن الممارسة الفعلية في العلم الحديث تنبني على حوار مستمر بين العقل والتجربة في بناء النظرية العلمية. والتجربة العلمية هي تصحيح مستمر لأخطاء العلم وليس لحقائقه الثابتة، وهذا ما يؤكد عليه "غاستون باشلار" في أطروحته العقلانية المفتوحة. فالعقل فعالية ونشاط يتدخل في بناء الموضوع، والتجربة مجال لاختبار قدرات العقل ومفاهيمه المجردة.


تركيب:


يمكن أن نستنتج من تحليلنا ومناقشتنا لهذه القولة الطابع التفاعلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية، فالعالم التجريبي لا ينصت إلى الطبيعة بل يتوجه إليها ويستنطقها بوصفها ذاتا مشرعة، ويتجاوز موضوعية الواقع باستعماله لفروض وكيانات لا توجد دائما في الواقع.
فلا وجود لنظرية علمية خالصة، ولا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل، فكل انغلاق لأحدهما عن الآخر هو عزلته ونهايته.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-