منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال أساس هوية الشخص

 

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال أساس هوية الشخص

إشكال أساس هوية الشخص


النص:

"إن المعيار الغالب للحكم على أن الشخص هو هو، كما يرى الحس العام، هو استمرارية الجسد المادية عبر الزمن، وهو المعيار نفسه الذي نستخدمه للحكم على أن الدراجات الهوائية أو غيرها هي نفسها دون سواها. أما إذا تحدثنا بخلاف ذلك، فإن حديثنا سيكون على سبيل الاستعارة (كأن أقول مثلا أنا إنسان جديد)، فلو صح هذا القول لما كان بوسعي التفوه به. وحقيقة أننا نشعر أن هويتنا الجسدية عبر الزمن أمر معقد، وأنها تتأكد من خلال المعرفة الداخلية بماضينا التي تأتي بها الذاكرة. يجب ألا يثير دهشتنا على الإطلاق كون الذاكرة نفسها تتصل بالضرورة بأدمغتنا وبأجسادنا. وإذا كانت ذكرى الماضي قد سببها ما حدث لنا، أي ما حدث لأجسادنا وأدمغتنا، فمن غير المدهش أن استمرارية هذه الأجساد عبر الزمن يجب، في بعض الأحيان على الأقل، أن يتأكد من خلال معيار الذاكرة."

منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال أساس هوية الشخص


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتأطر موضوع هذا النص ضمن المجال الإشكالي للوضع البشري، فالإنسان ينتمي في وجوده إلى بنيات ضرورية تحدده وتشرط وجوده. لكنه أيضا يتميز عن سائر الموجودات بالوعي، فهو شخص، أي كائن عاقل وواع بذاته، ويعيش داخل المجتمع، ويحاول باستمرار تجاوز شرطه الإنساني، لأنه كائن حر. والنص الذي نحن بصدد التفكير فيه يطرح مشكلة أساس هوية الشخص، إذ يرى صاحب النص أن معيار تحديد الهوية الشخصية لا تقوم على الجسد والإدراك فقط، بل من خلال البعد الزمني المتمثل في الذاكرة. فما معنى هوية الشخص؟ وما علاقتها بالذاكرة؟


تحليل:


ينطلق صاحب النص من حكم الحس العام حول أساس هوية الشخص. فعندما نتساءل لماذا يبقى الشخص هو هو، ويحافظ على استمرارية أناه، فإن جواب الحس العام هو استمرارية الجسد عبر الزمن. ثم يحاول  صاحب النص إثبات محدودية هذا التصور العامي بالوقوف عند أهمية الذاكرة التي هي أساس الشعور بالهوية الشخصية، فهي مرتبطة بالجسد والدماغ، ولولا الذاكرة لما كان هناك إحساس بالجسد، ولا إمكانية بناء معرفة بالذات، فالذاكرة هي التي تحفظ وعي الذات بذاتها في الزمن، دون أن يعني ذلك استقلالية هذه الذات على الجسد الذي تظل مرتبطة به لارتباطها بالدماغ. يستعمل صاحب النص مفاهيم أساسية تبني أطروحته، وهي: الشخص، والهوية، والجسد والذاكرة. فالشخص كائن واع وعاقل، له وعي بذاته عبر الزمن. أما الهوية فهي مطابقة الذات لنفسها، إنها التي تجعل الشخص يحافظ على استمرارية وعيه بذاته ونطقه "بالأنا" وله صفات تميزه عن الآخرين. أما الجسد، فهو الجانب المادي البيولوجي في الذات الإنسانية، من خلاله ندرك ذواتنا والعالم الخارجي، وهو مركز يتضمن الحواس ومنشأ الرغبات والوظائف الفيزيولوجية. وأخيرا يقصد صاحب النص بالذاكرة القدرة العقلية التي تقوم بتخزين المعارف والتجارب والمواقف، كما تقوم باسترجاعها عندما يواجه وعي الإنسان مواقف جديدة. وللدفاع عن أطروحته اعتمد صاحب النص بنية حجاجية تقوم على النقد والمثال والشرح. فهو ينتقد الموقف العامي من أساس الهوية، ويعتبره رأي عامة الناس، إذ يستعمل عبارة شرطية "أما إذا تحدثنا خلاف ذلك"، ويمثل حكم الحس العام حول الهوية بالحكم على الدراجة الهوائية أنها هي الدراجة الهوائية وليس سواها. كما يقوم بشرح العلاقة بين الذاكرة والجسد والدماغ،، ليؤكد على الطابع المؤسس للهوية، وهو معيار الذاكرة.


مناقشة:


تكمن أهمية هذه الأطروحة في أنها أبرزت بعدا أساسيا في تحديد الهوية الشخصية، هو البعد الشعوري بالزمن. هذا البعد الذي يجعل الإنسان يدرك ذاته باعتبارها وحدة جسدية في الماضي، ويعيش في الحاضر وينفتح على المستقبل بالرغم من التغيرات التي تطرأ عليه في حياته. فإلى أي حد يمكن الاتفاق مع هذه الأطروحة؟ قد نجد في فلسفة "جون لوك" ما يدعم أطروحة صاحب النص، فقد أسس "لوك" التفكير في الهوية الشخصية انطلاقا من الشعور والذاكرة. فبواسطة الإدراكات الحسية يدرك الإنسان أنه موجود ويفكر ويحب ويغضب ويتساءل... هذا الإحساس بالذات أو وحدة الأنا الصورية تمتد عبر الزمن إلى الماضي فتسترجع أحداثا حدثت لنا. كما تجعلنا، أي الذاكرة، نفكر في الحاضر وننفتح على المستقبل. غير أن حصر أساس الهوية الشخصية في "الذاكرة" قد يؤدي بنا إلى تجاهل مكونات أخرى للهوية، والانغلاق في بعد واحد من أبعادها. فبإمكاننا الانفتاح على مفاهيم أخرى كالإرادة والمجتمع والحرية لأنها مفاهيم أساسية تغني مفهوم الشخص وتحدد معنى هويته.


إن "الإرادة" عند "شوبنهاور" في كتابه "العالم كإرادة وتمثل" هي إرادة للحياة، وهي قوة لا شعورية تخترق إرادة العقل البشرية، وتجعل الإنسان يبحث دائما عن إشباع رغباته دون أن يتمكن من ذلك. فما يحدد الهوية عند هذا الفيلسوف ليس الوعي أو العقل أو الذاكرة، بل إرادة الحياة التي تظل ثابتة رغم كل التحولات التي يعرفها الشخص في حياته. وفي اتجاه مختلف تماما، حاول بعض الفلاسفة ربط هوية الشخص ووعيه بذاته بالغير أو الآخر الإنساني. هذا البعد الاجتماعي أساسي في تكوين الهوية، إنها تتجاوز الجوانب الذاتية (الذاكرة، والوعي والإرادة...) إلى مستويات علائقية يلعب الغير، بمؤسساته ولغته وسلطته، دورا مركزيا في تشكيل الهوية الشخصية. وهذا موقف عام نجده حاضرا بأشكال مختلفة ومتفاوتة عند "سارتر" و"غوسدروف" والفلاسفة الفينومينولوجيين. إذ لا يمكن أن يوجد أي شخص وحده في العالم، بل يحتاج بالضرورة إلى غير يتواصل معه ويدرك ذاته من خلال أحكامه وتأثيراته.


تركيب:


يمكن أن نستنتج انطلاقا من التحليل والمناقشة، أن امتلاك الهوية يقوم من جهة على الذاكرة والجسد، كما تقوم على الإرادة والمجتمع. ومع ذلك يمكن اعتبار الهوية مشكلة ميتافيزيقية، حاول الفلاسفة التفكير فيها من منطلقات ورؤي مختلفة. فالتساؤل عن وحدة الأنا واستمراريتها في الزمن هو الذي يجعلنا نعتبر الشخص هو هو، واعيا بذاته وخصوصياتها. لكن هذا الإشكال تم تجاوزه مع انفتاح الكائن اليوم على قضايا وأطروحات جديدة لم تعد فيها الهوية علامة على الثبات والاستمرارية والوحدة، بل انفتحت على مفاهيم التعدد والاختلاف والتمزق... كما هو الشأن مع قضايا حقوق الإنسان والبيئة والهجرة..



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-