منهجية تحليل نص فلسفي : إشكال الهوية الشخصية
إشكال الهوية الشخصية
النص:
"أما أن الشخصية وحدة، فهذا لا ريب فيه. إلا أن مثل هذا القول لا يعلمني شيئا عن الطبيعة العجيبة لهذه الوحدة التي هي الشخص. وأما أن الذات كثيرة، فإنني أوافق على هذا أيضا، إلا أننا هنا إزاء كثرة ينبغي أن نعترف بأنها لا تشبه أية كثرة أخرى. والذي يهم الفلسفة حقا هو أن نعرف: أي وحدة، وأي كثرة، وأي حقيقة فوق الواحد والكثير، هي هذه الوحدة المتكثرة التي للشخص. والفلسفة لن تعرف هذا إلا إذا هي قيضت على الحدس البسيط الذي به تدرك الذات ذاتها. وبعدئذ نستطيع، تبعا للمنحدر الذي تختاره للهبوط من هذه القمة، أن تصل إلى الوحدة أو إلى الكثرة، أو إلى أي مفهوم من المفاهيم التي بها نحاول أن نعرف الحياة المتحركة التي يحياها الشخص. ولكننا نعود ونكرر أنه ما من خليط من هذه المفاهيم يمكن أن يعطينا شيئا يشبه الشخص الذي يدوم."
تحرير الموضوع:
مقدمة:
يشكل مفهوم الشخص في هذا النص بؤرة للتفكير والتأمل، لا من حيث هو الكائن المفكر والواعي بحريته وقيمته داخل مجال الشروط المحددة لوجوده فحسب، وإنما من حيث هو مفهوم يجسد بعض الإشكالات التي تتمظهر في مفارقات وإحراجات، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالبحث في هوية هذا الشخص بين الكثرة والوحدة وبين الثبات والتغير. ومن ثم يسعى النص إلى تناول إشكال وحدة هوية الشخص والبحث عن الأساس الذي يضمن هذه الوحدة ويسمح باستمراريتها.
تحليل:
يستهل النص حديثه باتفاق أولي مع بعض الأطروحات المتعارضة فيما بينها، والتي يذهب بعضها إلى القول أن الشخص وحدة، وبعضها الآخر يقر أن الشخص كثرة. لكن سرعان ما يكشف النص عما يلف هذه الأطروحات من غموض ولبس بصدد مفهومي الوحدة والكثرة؛ فالوحدة المعبر عنها بصدد الشخص، بما هو كائن مفكر وواع وحر، ليست وحدة عادية مثل الوحدة العددية أو الوحدة التي يمكن أن نصف بها أشياء مادية، ونفس القول ينطبق على مفهوم الكثرة؛ إذ يأخذ هذا المفهوم معنى متميزا عند ارتباطه بالشخص. وسواء تعلق الأمر بالوحدة أو الكثرة اللتين يمكن أن نصف بهما هوية الشخص، فإن الفلسفة، باعتبارها نمط من التفكير المتميز، تسعى جاهدة إلى التفكير في هوية الشخص التي تفيد تطابق الذات مع نفسها بشكل تام ودائم كما تعني تميز هذه الذات عن ذوات أخرى، وهو ما يقتضي بالضرورة المنطقية الحديث عن هذا الشخص داخل مفهوم الوحدة، أي إن الشخص هو هو، وأنه لا يمكن أن ينفك عن التفكير خارج هذا الأنا التي تشكل حقيقته الثابتة والدائمة. لكن هذا الشخص، هو أيضا كائن يعيش جملة من الحالات النفسية، تغدو معها كل حالة نفسية بمثابة حالة فريدة ومتفردة، وهو ما يسمح بالقول إن الشخص في حالة ديمومة مستمرة من التحول والتغير. غير أن التأكيد على الهوية الشخصية والقول بتعدد الحالات التي يعيشها الشخص وكثرتها قول يناقض ذاته، مادامت الهوية الشخصية تنفي مسبقا كل تعدد. وعليه فإن السبيل الوحيد والممكن الذي يجعل الشخص يدرك هويته داخل الوحدة في تعددها، والكثرة في وحدتها، هو ذلك الشعور البسيط والمباشر الذي يربط الشخص بأناه ليتعرف ذاته في خضم هذه التغيرات أو ما سماه صاحب النص بالحدس. ومع ذلك يعترف النص بصعوبة الإمساك بهذه الهوية التي تظل إشكالا فلسفيا مستعصيا على التفسير ما دمنا نحاول أن نضع الهوية بين مفهومين متعارضين، أحدهما يدل على الثبات والوحدة، والآخر يفيد التغير والكثرة، ولعل هذه الخلاصة الأخيرة تشكل عبر البرهنة بالخلف على أن ما اعتبر في بداية النص اتفاقا بين صاحب النص والأطروحات المتعارضة لم يكن إلا خطوة لإبراز ضعفها وعدم قدرتها على النفاذ إلى الطبيعة المعقدة والمركبة للهوية الشخصية.
مناقشة:
تكمن قيمة النص في إبراز أهم الإحراجات النظرية التي يطرحها مفهوم الهوية الشخصية داخل مفهومي الوحدة والكثرة، إضافة إلى اقتراح طريق الحدس بوصفه الحل، ولو مؤقتا، لتفسير كيفية بقاء الوعي بالهوية وثباتها بالنسبة للشخص. ولقد شكل مفهوم الهوية الشخصية وأساسها موضوعا فلسفيا وإشكالا نظريا بالنسبة لفلاسفة كثيرين، حاول كل واحد أن يقدم ما يراه الطريق الأنسب لفهم هذه الهوية وتفسير كيف يظل الشخص هو هو رغم ما يعرف من تغير جسدي ونفسي. وتظل أطروحة "جون لوك" أطروحة لها قوتها في تاريخ الفلسفة من حيث العمل على التأكيد على أهمية الذاكرة (الوعي) التي تحفظ تجارب الشخص وكل سلسلات الوعي، ومن تم فإن أساس الهوية الشخصية واستمراريتها رهينان بقوة الذاكرة وقدرتها على حفظ وعي الشخص بذاته. وبناء على هذا الموقف فإن كل التغيرات التي تلحق الشخص جسديا أو نفسيا لا يمكنها أن تمس تلك الوحدة الذاتية المتماسكة بفضل الذاكرة، وبالمقابل فإن أي خلل يصيب الذاكرة فإنه يؤدي بالضرورة إلى ضياع هوية الشخص. لكن هذا الموقف الفلسفي المستند إلى أهمية الذاكرة والوعي في ضمان وحدة واستمرارية الهوية الشخصية، لم يكن ليقنع الفيلسوف "شوبنهاور" الذي يذهب إلى أن الذاكرة (الوعي) قد يصيبها التلف بفعل الشيخوخة أو المرض، لكن ما يظل ثابتا وجوهريا في الشخص هو إرادة الحياة التي هي نواة الوجود الإنساني، والمتمثلة في رغبات الشخص من حيث هي قوة لاشعورية تجعل الشخص خاضعا لها بقوة من جهة، ومن جهة أخرى إنها هي التي تشكل هويته وليس الوعي المحفوظ في الذاكرة كما ذهب إلى ذلك "جون لوك".
تركيب:
شكل إشكال الهوية الشخصية، إذن، مجالا نظريا لنقاشات فلسفية غنية ومفتوحة على عدة إجابات، فمن مؤكد على أهمية الحدس، إلى من أرجع وحدة الهوية إلى دور الذاكرة والوعي، وصولا إلى من أكد على أهمية إرادة الحياة. إلا أن هذا النقاش الفلسفي الميتافيزيقي إنما يؤسس في الغالب لنقاش أخلاقي حول أهمية الشخص وقيمته، وأيضا لنقاش قانوني يربط بين الهوية الشخصية في وحدتها ووعيها، وبين المسؤولية القانونية.