منهجية السؤال : هل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض؟

 


منهجية السؤال : هل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض؟

هل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض؟


السؤال :


هل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض؟


منهجية السؤال : هل يمكن أن نتحدث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في تناقض؟


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يدخلنا السؤال مباشرة إلى صلب الموضوع: شروط إمكانية الحديث عن علوم إنسانية دون سقوط في التناقض؟ فمن أين يأتي التوتر والسقوط في التناقض؟ ثم التناقض مع ماذا، أو بالأحرى بين ماذا وماذا؟ أبين العلم من جهة، والإنسان من جهة ثانية؟ ولماذا لا نتساءل هذا التساؤل عندما نتحدث عن الأدب أو الفن أو الفلسفة أو السياسة؟ لماذا يفترض أن لا تناقض عندما نتحدث عما يقول الأدب أو الفن أو الفلسفة، أو ما تفعله السياسة عندما يتعلق الأمر بالإنسان؟


تحليل:


يظهر أن المشكلة تكمن في المضمون الذي نعطيه لـ"علوم إنسانية"، لأنه هو الذي يحدد إمكانية السقوط في التناقض من عدمها. فبأي معنى يمكن القول إن الإنسان، هذا الكائن المتكلم والكاتب، العاقل والمتخيل، الراغب والمريد، الحر والمشروط، المحدود واللامحدود، يمكنه أن يكون موضوعا علميا؟ ما مضامين هذه الموضعة، وإلى أي حد يمكن إنتاج خطاب علمي عنه؟ وهل يتميز هذا الخطاب العلمي فيما يقوله عن الإنسان عما يقوله الأدب أو الفن أو الفلسفة أو السياسة عن نفس الإنسان؟ وهل يتميز عما تقوله باقي العلوم عن الطبيعة، علما بأنه جزء منها؟ أسئلة مترابطة، لكنها تمس كلها إمكانيات المعرفة بالإنسان، وكأن الإنسان يتحدى المعرفة بأن يبقى بعيدا عنها أو مستعصيا عليها، رغم أنه هو نفسه من يريد أن يعرف.

يفترض هذا السؤال أطروحة مؤداها أن في القول: "علوم إنسانية" تناقضا، لأنها تجمع بين ما لا يجمع، أي العلم من جهة، والإنسان من جهة أخرى. وتقوم هذه الأطروحة على تصور محدد يحصر صفة العلم في العلوم الدقيقة، سواء كانت العلوم الرياضية أو العلوم التجريبية، على أساس أن هذه الأخيرة استطاعت أن تنتج معرفة دقيقة بالظواهر التي تدرسها، وجعلها تتحكم في كثرة الظواهر وتنوعها بإرجاعها إلى قوانين عامة وكونية توحدهما، وتعبر عنهما تعبيرا دقيقا وموضوعيا لا تتحكم فيه سوى الاعتبارات المنهجية. معرفة حققت درجة عليا من اليقين، بحيث أصبحت قادرة على التنبؤ بالظواهر وحساب ترددها وقوتها وآثارها بشكل شبه كلي؛ مما جعل مفهوم العلم يرتبط بالحتمية والضرورة والكونية والصياغة الرياضية للعلاقات والمبادئ. هذا الانتصار العظيم للعلم على الطبيعة، وهذا التحكم العقلي الباهر دفع بالكثير إلى اعتبار العلوم الحقة هي النموذج الذي لا يعلى عليه؛ وبالتالي فأي معرفة لا تتوفر فيها هذه الشروط من حيث المنهج وبناء الموضوع لا يمكن اعتبارها معرفة علمية.

تولد عن هذا الطرح موقفان: الأول قال باستحالة دراسة الإنسان علميا، وبأن ما يعبر حقيقة عن الإنسان هو يفعله هذا الأخير في مجالي السياسة والتاريخ، ففعله وتعبيره هو معرفته؛ فالأدب والفن، وكذلك التاريخ والسياسة، كلها تقربنا من معرفته وفهمه أكثر من أي علم. بالنسبة لهذا الموقف لا يمكن لأي حديث عن العلوم الإنسانية إلا أن يؤدي إلى التناقض، لأنه لا علم بالإنسان. وقد انتصر لهذا الموقف كل من رفض العلم. وينبغي القول إن أصحاب هذا الرأي قلة، وانتشر موقفهم عند بدايات العلوم الإنسانية، لكن نتائج هذه الأخيرة جعلت الاقتناع يسود بجدواها وأهميتها.


مناقشة:


أما الموقف الثاني فقال بضرورة تبني النموذج العلمي في دراسة الإنسان والاقتداء بما طورته العلوم التجريبية والرياضية. وهو الموقف الوضعي الذي يقبل هذا التوجه، ويحاول تطبيق هذه العلمية، سواء في دراسة الظواهر النفسية أو الاجتماعية أو التاريخية، ويرى إمكانية فصل الذات عن موضوعها باتباع إجراءات منهجية تهدف تحييد تدخل القيم، ودراسة الظواهر الإنسانية كما تدرس الظواهر الطبيعية، أي كأشياء. موقف يؤمن بإمكانية تكميم الظواهر الإنسانية وحسابها وتصنيفها لاكتشاف منطق عملها أو لبنائها، وبالتالي يمكن بناء معرفة دقيقة بالظواهر الإنسانية تسمح بالتعميم، وأحيانا باستنتاج قوانين.

خلق الموقف الثاني بانتصاره لنموذجية العلوم الحقة، وخصوصا التجريبية منها، نقاشا نظريا ومنهجيا واسعا بناء على المقارنة بين طبيعة الموضوع العلمي كما هو في العلوم الحقة، وطبيعة الموضوع الإنساني كما هو في العلوم الإنسانية. لقد تم انتقاد الموقف الوضعي في تبنيه نموذجية العلوم الحقة التي تبقى وجيهة وملائمة كلما تعلق الأمر بالظواهر الطبيعية؛ غير أن هذه الوجاهة أو الملائمة تتقلص بشكل كبير عند دراسة الظواهر الإنسانية، رغم مكتسبات المنهج العلمي الذي لا يستطيع التحكم في تفرد الإنسان الذي يجعل منه شخصا فريدا ووحيدا لا يتكرر، يحمل هوية خاصة به، تبتدئ وتنتهي معه، رغم اشتراكه مع أفراد مجتمعه في اللغة والمأكل والمشرب والعادات والثقافة. كما أن حريته تجعله يتعدى التعريفات الثابتة والقارة لممكناته؛ ونفس الانفتاح أو اللامحدودية نجدها في المعاني والرموز التي يعطيها لحياته، ولماضيه وحاضره ومستقبله، بمعنى آخر، إذا كانت أبعاد الظواهر الطبيعية تقاس وتحسب وتحد، فإن أبعاد وجود الإنسان متداخلة ومتشابكة، بحيث لا يمكن أن يحيط بها مفهوم كوني وعام كما هو الحال في العلوم. فالظاهرة الإنسانية واعية وقاصدة ورامزة، وبالتالي فهي تعي نفسها بشكل ما وتتفاعل مع كل أشكال الوعي، وهذا يطرح مشكل انفتاح دلالة الظواهر بالنسبة للفاعلين، وارتباط ذلك الانفتاح بمواقعهم ومواقفهم في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي متغير.

غير أن هذا النقاش الذي قام على نقد الوضعية لم ينف "العلمية" كالموقف الأول، بل فقط تحفظ على تبني الموقف الثاني لنموذجية العلوم الطبيعية وتطبيقها على الظواهر الإنسانية، وطالب ببناء علمية تستفيد ما أمكن من مكتسبات المنهج العلمي الوضعي، خصوصا على مستوى الإحصاء، حيث يمكن بناء عينات تمثيلية وإظهار توافقات في الظواهر بشكل موضوعي. وبعيداً عن المواقف، سواء كانت دينية أو أخلاقية أو فلسفية، لكن تنفتح بالضرورة على كل تلك الأبعاد في الظواهر الإنسانية وأخذها بعين الاعتبار في إنتاج الخطاب حول الإنسان. ومن هنا نفهم المطالبة بتفسير الظواهر الإنسانية من خلال التفهم بالوقوف عند ما يقوله الفاعلون عن أفعالهم، رغم أن "ماركس" علمنا أن ما يقوله الناس عن أنفسهم ووعيهم بما يقومون به يجدان تفسيرهما ومحدداتهما في طبيعة وجودهم الاجتماعي. وفي هذا الموقف أخذ بعين الاعتبار للمعاني والدلالات التي يعطيها الناس لأفعالهم. ومع ذلك، تبقى حقيقة الإنسان ناقصة، حتى في هذه الحالة التي نسمع فيها لما يقوله عن نفسه، لأن حياته مفتوحة ولا يمكن التنبؤ بمساراتها على نحو كامل لو تعلق الأمر بمسار كوكب من الكواكب داخل المنظومة الشمسية مثلا.


فرغم كون الإنسان يخضع من حيث هو جسد لقانون الجاذبية الكونية، فإنه يتخلص من هذه الجاذبية بالفكر، والخيال، والحلم، والعقل ذاته الذي جعله يجد المعادلات الرياضية والفيزيائية للتخلص من جذب الأرض ليسافر في الفضاء الخارجي. فكونية قانون الجاذبية وعموميتها التي تجعل العالم يتنبأ بمختلف حالات سقوط الأجسام وحركتها لا تضاهيها سوى لا نهائية ذاتية الوعي والإرادة والحرية التي لا تقبل التكميم ولا الترويض، ولكنها يمكن أن تفهم وتعاش باعتبارها معانٍ مشتركة بين البشر، معانٍ رغم أنها ذاتية ومتعددة وكثيرة، فإن لها دلالة موضوعية لأن الناس تعيش بها ومن أجلها.

إن القصدية التي تفتقدها الظاهرة الطبيعية، يولدها الإنسان أو يبنيها بناء ذاتيا (يخص شخصه وهويته وكرامته)، وموضوعيا (يخص الأغيار، جماعته ومجتمعه وتاريخه). لهذا يطلب المنهج التفهمي بضرورة استحضار الأبعاد الأخرى ومراعاتها، ويقبل معها أن الواقع الإنساني لا يمكن أن نحيط به على نحو تام ونهائي لتداخل الذاتي مع الموضوعي، كما أنه لا يعتبر هذا التداخل عائقا أمام العلمية، بل تركيبا إنسانيا لا بد لهذه العلمية المنشودة أن تستوعبه. لهذا يرى هذا الاتجاه أنه "يمكن الحديث عن علوم إنسانية دون أن نسقط في التناقض"، لأنه يمكن أن ندرس الإنسان دراسة علمية من دون أن تكون هذه العلمية مطابقة تماما لعلمية العلوم الحقة، فذاك التناقض هو مجرد افتراض يقوم على فهم ضيق لموضوع ومنهج العلوم الإنسانية.

لا نعرف بالضبط أيهما كان الأسبق عند الإنسان: انشغاله بمعرفة نفسه أم العالم المحيط به؟ كيفما كان الجواب، فإن المؤكد هو أن إرادة المعرفة بقيت عنده قائمة وفعالة. اتخذت عنده أشكالا وصيغا، فتجسدت في معارف وأجوبة قدمتها الأسطورة والفلسفة والأدب والفن، فقال من خلالها ما أراد قوله عن نفسه وعلاقتها بذاتها وبغيرها وبالعالم. بعد ذلك تطور العلم، خصوصا التجريبي، فانتصرت الملاحظة والحساب. تمت السيطرة على الطبيعة وأصبح الإنسان سيدها. تداخلت هذه السيطرة وتزامنت مع بروز مجتمع جديد هو المجتمع البورجوازي الصناعي الذي تحكم في القوى الطبيعية وجعلها وسائل إنتاجية. بقي له التحكم في الإنسان، فكان لا بد من معرفته وموضعته.

تركيب:


ارتبط، إذن، ميلاد علوم الإنسان بهذه الإرادة في المعرفة من أجل السيطرة. غير أن الإنسان من حيث هو ذات واعية وحرة ومنفتحة على مستقبل أفضل من الحاضر، لا يقبل أن يموضع كشيء أو كسلعة (قوة العمل مثلا)، فهو يتكلم، ويتخيل، ويرغب، ويحلم، وبالتالي يصعب حصره بالقوة داخل تعريف نهائي ومكمم كموضوع للسيطرة. هذا ما أظهره "كارل ماركس"، و"ماكس فيبر"، وبعدهما كثير من المفكرين الذين انتهوا إلى القول: نعم لعلم الإنسان ولفهم الإنسان وتحريره، ولا للسيطرة عليه وتسخيره. من هنا نفهم الارتباط العميق داخل علوم الإنسان بين الموضوعي والذاتي، بين الحرية والضرورة، بين الفردي والجماعي، بين الواقع والممكن، بين العام والخاص. وبذلك لا يكون هناك أي تناقض حين نتحدث اليوم عن علوم الإنسان مستحضرين النقاش الذي لا زال مفتوحا حول العلم والعلمية، حيث يخضع العلم لمراجعة شاملة جعلته يقبل بالمحتمل واللايقين وقيمة الذاتي وتدخله في تشكيل ما يعتبر موضوعيا، ليس فقط على مستوى الطبيعة، بل أيضا على مستوى الإنسان والمجتمع.
تعليقات