منهجية القولة : طبيعة العلاقة بين السلطة السياسة والعنف

 

منهجية القولة :  طبيعة العلاقة بين السلطة السياسة والعنف


القولة : لم يستطع أحد أن يستمر في الحكم عن طريق العنف.


منهجية القولة :  طبيعة العلاقة بين السلطة السياسة والعنف


تحرير الموضوع:


مقدمة:


تدخلنا القولة مباشرة إلى مجال السياسة عبر ربط مفهوم العنف بممارسة الحكم (الدولة)، وبذلك تدفعنا إلى التفكير في طبيعة العلاقة بين السلطة السياسة (ممارسة الحكم) والعنف، من زاوية هذه العلاقة الأساسية بين استمرارية الحكم من جهة أولى، ومن جهة ثانية، ممارسة العنف. غير أن القولة تؤكد ان العنف لا يضمن استمرارية الحكم. فما طبيعة العلاقة بين كل من ممارسة السلطة أو الحكم، وبين ممارسة العنف؟


تحليل:


بدءا، تؤكد القولة أن العنف لا يمكنه أن يضمن الاستمرارية في ممارسة الحكم. إنه حكم عام يصدر عن إدراك محدد لطبيعة كل من السياسة والعنف. ولا يمكن توضيح مضمون القولة وتبين أبعادها إلا إذا توقفنا عند مفاهيم (الحكم، العنف، الاستمرارية) والحجاج المفترض في الأطروحة التي تؤكد على أن العنف لا يمكن أن يضمن استمرارية الدولة.

يعتبر العنف مفهوما مركزيا بالنسبة لكل تفكير في السياسة، لأن الموقف من العنف ومن كيفيات اللجوء إليه وشروط ممارسته، هي التي تحدد طبيعة السياسة. فتعريف السياسة من العنف، والعكس صحيح. فهما يتلازمان تلازما معينا يشرط طبيعة النظام السياسي، سواء كان ديكتاتوريا أو ديمقراطيا، أو بينهما.

لعب العنف بمختلف تجلياته ومظاهره دورا حاسما في تاريخ البشر. ويرجع ذلك إلى كون العنف آلية من الآليات الأساسية عند البشر، بل هو مكون من مكوناتهم التي لا يمكن التخلص منها إلا في حدود تزداد أو تتقلص بقدر ما يزداد أو يتقلص دور التنشئة الاجتماعية والتربية والمؤسسات في أنسنة الإنسان وترقيته روحيا. غير أن هذا الدور يبقى دائما محدودا أمام أهواء البشر وميولاتهم المندفعة على حساب الغير. لذلك يعتبر الحل السياسي للعنف هو أحسن حل تم التوصل إليه إلى غاية اليوم؛ فالسياسة هي ضد العنف، وتحد منه بلجوئها المقنن والمضبوط إليه. ويتجلى ذلك في لجوء الدولة إلى ممارسة العنف (بواسطة القوات العمومية) عبر آليات يضبطها الدستور والقوانين المتفرعة عنه. لهذا يقال إن عنف الدولة عنف مشروع عكس عنف الأفراد والجماعات الذي لا يكون محكوما بالضوابط القانونية، بقدر ما يكون موجها بالانتقام والنزعات العدوانية التلقائية. العنف الأول مقبول ومعترف به، لأنه يحمي المواطنين ويضمن لهم الأمن وسلامة ممتلكاتهم، والثاني مرفوض لأنه محطم لأسباب الاجتماع البشري. ولهذا السبب قيل: العنف يكون قبل السياسة أو بعد موتها. السياسة إذن هي تعليق العنف وفق شروط وضوابط، وبالتالي لا يمكن أن نفصل بينهما. لكن إذا كان الفصل بينها غير ممكن، فلماذا يؤكد صاحب القولة على أن لا أحد استطاع الاستمرار في الحكم باللجوء إلى العنف وحده؟ تقتضي الإجابة عن السؤال توضيح الأمر الآتي: إن الاستمرار في الحكم استمرار مشروط بالمشروعية التي تقوم عليها الشرعية، وبالتالي تكون القاعدة هي اللجوء إلى الآليات السياسية المتفق عليها ديمقراطيا للتفاوض وتدبير الخلافات والنزاعات وتضارب المصالح، وليس فرض الاختيارات بالقوة. وإذا حصل أن تم فرض اختيار ما بالقوة والعنف، فإن ذلك الأمر يدشن مسلسل العنف، ليقوم عنف إزاء آخر، فيكون المقياس هو قوة العنف لا قوة الاتفاق المبني على الحوار والإقناع والاتفاق؛ مما يعني قوة القهر التي يضمنها العنف لا تكون سوى مؤقتة ومشروطة بمدى دوامها. والقوة مهما ازدادت شدة فلابد لها من أن تضعف أمام قوة أخرى. والحال أن الاتفاق العقلي بين الناس عندما يكون نتيجة للحوار بينهم وتأكيدا لأخذهم بوجهات نظر بعضهم البعض يكون أضمن للعمران البشري والاجتماع، لأن القوى الاجتماعية تتعرف على نفسها في ذلك الاتفاق، فتعمل على نشره والالتزام به. ومن ثمة تلك الاستمرارية التي يمنحها الاستقرار السياسي، ولا يمنحها العنف الذي يولد عنفه المضاد، ومن ثمة كل أسباب الخراب التي تهدد كل المجتمعات بدون استثناء.


المناقشة:


إن أطروحة القولة تدفعنا حقا إلى مناقشة بعض القضايا الجوهرية في علاقة الدولة ومؤسساتها بالعنف.

يؤكد الكثير من الفلاسفة والمفكرين أن احتكار الدولة للعنف الشرعي كان بمثابة التدشين الفعلي للحداثة والتقدم الإنسانيين، وإن اعتبر التحليل الماركسي أن الدولة هي نفسها بناء طبقي تسيطر عليه طبقة ضد باقي الطبقات. لقد كان ذلك الاحتكار تعليقا لكل الأسباب (الانتقام؛ العنصرية؛ الإجرام...) التي تقع خارج دائرة القانون المعترف به، والمقبول من طرف الجميع الذي ساهم في صياغته عبر ممثليه. فرغم أن الممارسة السياسية تعرف توترا دائما بين المشروعية والشرعية، فإن احتكامها في الأخير لمبادئ دولة الحق والقانون وحقوق الإنسان يجعلها تحد من حدة هذا التوتر، وتستطيع التغلب عليه بفضل ما تتيحه من آليات مؤسساتية للعمل داخلها. ويعتبر اللجوء إلى الآليات المؤسساتية علامة على الرقي والتحضر وتطور الحياة السياسية التي تنجح في تحييد اللجوء إلى العنف.


أما القضية الثانية التي نريد التوقف عندها، فهي ما يعرف بتبرير عنف الدولة بالوقوف عند غاية الدولة المتمثلة في ضمان الأمن والنظام والمصلحة العامة. إن هذه الغاية متى كانت فعلية وحقيقية، ولصالح الأغلبية، تبقى تبريرا مقبولا ومشروعا لاستخدامها العنف، بل يمكن اعتبار لجوء الدولة إلى العنف تجسيدا لمسؤوليتها في القيام بواجبها ألا وهو ضمان الاستقرار وتفادي الحرب الأهلية.


تركيب:


يظهر لنا من خلال التركيب والمناقشة، أن علاقة العنف مع السياسة علاقة جوهرية، بحيث لا يمكن الفصل بينهما. ولكن عدم الفصل لا يعني تغليب ممارسة العنف، بل تقنين اللجوء إليه، وضبط حالات استخداماته. يجب على الدولة أن تحتكر ممارسة العنف من خلال قوانينها، وأن تمارسه بشكل شرعي تطبيقا للقوانين المصوغة و المبنية مؤسساتيا، مع المراهنة الدائمة على دولة الحق والقانون التي تحاول أن يسود القانون في جميع الحالات، وهذا ما لا يقع دائما.





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-