منهجية تحليل نص فلسفي : النظرية والتجربة

 

منهجية تحليل نص فلسفي : النظرية والتجربة

النظرية والتجربة


النص:
 "إن الحادثة والفكرة تتعاونان في البحث التجريبي. فالحادثة التي نلاحظها بوضوح قليل أو كثير، توحي بفكرة لتعليلها. وهذه الفكرة يطلب العالم إلى التجربة أن تؤيدها؛ ولكن على العالم أن يكون مستعدا، طوال التجريب لأن يدع فرضيته، أو لأن يعدلها وفقا لما تقتضيه الوقائع. فالبحث العلمي إنما هو إذن محاورة بين الفكر والطبيعة. الطبيعة توقظ فينا حب المعرفة، فنطرح عليها أسئلة. وأجوبتها تفرض على الحوار سيرا غير متوقع، إذ تحملنا على طرح أسئلة جديدة، نجيب عنها بإيحاء أفكار جديدة، وهكذا دواليك إلى غير نهاية."

منهجية تحليل نص فلسفي : النظرية والتجربة



تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتأطر النص داخل المجال الإشكالي للمعرفة، والتي تطرح مشكلة كيفية بناء هذه المعرفة، مناهجها وغاياتها. فإذا كانت النظرية العلمية بناء عقليا منهجيا لموضوع محدد، فإن التجربة لحظة أساسية من لحظات هذا البناء. والإشكال الذي يطرحه النص هو إشكال العلاقة بين الواقع أو الحادثة والفكر النظري داخل البحث التجريبي، إذ يعتبر صاحب النص أن البحث العلمي التجريبي هو حوار مستمر بين المعطيات التجريبية والفكر الموجه لها، هذا الحوار لا يتوقف ويطرح أسئلة جديدة على العلم ذاته.

فما مكانة كل من الحادثة والفكر في بناء المعرفة العلمية؟ وما قيمة وحدود هذه الأطروحة؟

تحليل:


ينطلق صاحب النص من تأكيد واضح، هو التعاون الضروري بين الواقعة التجريبية والفكرة في البحث العلمي، فملاحظة الظواهر هي التي يستمد منها العالم فرضياته العلمية، والتجربة هي التي تؤيد أو تكذب هذه الفرضية؛ فالوقائع، حسب صاحب النص، هي التي تجعل الفرضيات قابلة للتعديل أو التحوير، تبعا لما تمليه هذه الوقائع بصفة مستمرة. وهذا ما يجعل المعرفة العلمية معرفة مفتوحة تقف عند أسئلة وأفكار جديدة.

يستعمل صاحب النص مفاهيم أساسية لبناء هذه الأطروحة، وهي الحادثة والتجريب عليها؛ والفكرة هي افتراض وتخمين وتعليل مؤقت لتفسير الظواهر الملاحظة، أما التجريب فهو مجموع الإجراءات والخطوات العلمية والنظرية التي يقوم بها العالم التجريبي قصد الوصول إلى صياغة القوانين العلمية، والحوار هو التفاعل المستمر بين الوقائع والأفكار النظرية. هذا الحوار يستمر ولا يتوقف عند نتائج يقينية. وللدفاع عن أطروحته، اعتمد صاحب النص بنية حجاجية تقوم على العرض والشرح باستعمال أدوات التوكيد، فهو يقدم موقفا إبستيمولوجيا يؤكد على صورة مثلى لعالم تجريبي يربط التجربة بالنظرية.


مناقشة:


إن الموضوع العلمي من خلال هذه الأطروحة، سواء عند بعض العلماء والإبستمولوجيين؛ عليه الخضوع للتجربة، فالعالم الفرنسي "كلود برنار" يرى بدوره أن العالم التجريبي المثالي هو الذي يجمع بين الممارسة التجريبية والعمل النظري، ثم يتم استنتاج قانون علمي رياضي من خلال الاستقراء. ونجد هذا التصور الإبستيمولوجي والفلسفي ما يسنده في تاريخ العلم، سواء في مجال الفيزياء مع "غاليلو" و"نيوتن"، أو البيولوجيا مع "داروين"، أو في مجال العلوم الإنسانية.

وبخلاف هذا التصور الداعم لأطروحة النص، هناك تصورات فلسفية تنطلق من التأكيد على الطابع العقلاني الصارم للمعرفة العلمية الإبستمولوجية، فالنظريات العلمية لا ترتبط بصفة مباشرة بالوقائع التجريبية، وهذا ما تؤكد عليه الاتجاهات العقلانية في الفيزياء، خاصة مع أعمال "أينشتاين" في النظرية النسبية، بل هناك من يؤكد على أهمية دور الخيال في بناء الموضوع العلمي، إذ لم يعد التجريب بمعناه الكلاسيكي هو المفهوم المهيمن في تفسير الظواهر، بل إن العقل، والخيال بوصفه تجربة ذهنية، هو الذي يغني اليوم البحث العلمي. إن المعرفة العلمية تبنى عبر حوار مستمر بين العقل والتجربة، والتجريب هو تصحيح لأخطاء العلم المقصودة، وليس دائما تحقيقا لفرضيات صحيحة، وهذا ما أكد عليه "باشلار" في "عقلانيته التطبيقية"، أو "كارل بوبر" في نزعته التكذيبية.

تركيب:


يمكن أن نستنتج، من تحليلنا ومناقشتنا لأطروحة النص، أن بناء المعرفة العلمية يقوم من جهة على الوقائع التجريبية، كما أنها تقوم على إبداعات العقل وقدراته في التأويل والقراءة المستمرة لهذه الوقائع, ومن هنا الطابع التفاعلي والتكميلي بين العقل والتجربة في بناء العلم، فلا وجود لتجربة مستقلة عن تدخل العقل، فالعقلانية العلمية الجديدة تجاوز الصراع الفلسفي التقليدي بين العقل والتجربة، والنظرية والتجربة يتكاملان ويتحاوران بصفة مستمرة.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-